(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)
إِنَّهُ تَكْلِيفٌ وَتَعْرِيفٌ تَفْتَتِحُ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ الْمُبَارَكَةُ، تَكْلِيفٌ بِالتَّسْبِيحِ وَتَعْرِيفٌ بِمُسْتَحَقِ التَّسْبِيحِ، لَقَدْ كَلَّفَ هَذَا الْمَخْلُوقَ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، هَذَا التَّسْبِيحِ الَّذِي يُمَثِّلُ -لِأَهَمِّيَّتِهِ- عِبَادَةً مُشْتَرَكَةً لِجَميعِ الْخلقِ: (وإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ويتموضعُ فِي الْمَرْكَزِ الْأَوَّلِ فِي بِنَائِيَّةِ الذِّكْرِ الْعِبَادِيَّةِ: “سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ” .
فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَ التَّسْبِيحُ مِنْ أَرْكَانِ الذِّكْرِ المتكررِ التَّوْجِيهِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا…
إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الرَّبَّانِيَّ يُحَتِّمُ عَلَى الْعَبْدِ لُزُومَهُ وَالْعِنَايَةَ بِهِ، لَيْسَ لِأَنَّهُ مِفْتَاحٌ لِمَكْنُونِ عَطَاءٍ لَا حُدُودَ لَهُ فَحَسْب كَمَا ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ للهِ سُبْحَانَهُ وَحْدهُ وَهَذَا لِوَحْدِهِ كَافٍ فِي اتِّخَاذِ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَطَنًا لِقَلْبِكَ وَبُوصَلَةً تُحَدِّدُ لِكِيَانِكَ وُجْهَتَهُ.
قَدْ ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ أَنَّ مَنْ سَبَّحَ اللّٰهَ مِئَةَ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ غَفَرَ لَهُ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَثَلِ مَا جَاءَ بِهِ، ووَرد أَنَّهُ يَمْلَأُ الْمِيزَانَ.
وَفِي فَضَائِلِهِ الْكَثِيرُ مِنْ النُّصُوصِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا لَهُ مِنْ مَكَانَةٍ.
إِنَّ هَذَا الْكَائِنَ الَّذِي يَتَرَبَّعُ عَلَى عَرْشِ الاسْتِخْلَافِ مُلْزَمٌ أَنْ يَسِيرَ فِي الاتِّجَاهِ اَلصَّحِيحِ، اتِّجَاهِ الْهُدَى مُفَارِقًا مُغَالَطَاتِ النَّفْسِ وَزَيْفَ الْأَهْوَاءِ، وَضُغُوطَ الْوَهْمِ، إِنَّ هَذَا الْكَائِنَ لَا بُدَّ أَنْ تَرْتَقِيَ عَلَاقَاتُهُ بَعِيدًا عَنْ التَّفْكِيرِ الْمُتَمَرِّغِ بِالطِّينِ وَغُبَارِ الدُّونِيَّةِ، تُحَلِّقُ ذَاتُه وَكَيْنُونَتُه مَعَ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى لِيَرْتَبِطَ بِهِ وَبِمَنْهَجِهِ، يَسْتَمِدّ مِنْهُ الْعَوْنَ وَالتَّشْرِيعَ.
إِنَّ اَلتَّسْبِيحَ عَقارُ النَّفْسِ وَوَطَنُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، يُصِيبُهَا الرَّهَقُ وَالضَّنَكُ وَالْغُرْبَةُ بِدُونِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ اَلَّذِي يَتَكَتَّلُ يَوْمِيًّا حَوْلَ الْمَادَّةِ وَمَعَانِي الْمَصْلَحَةِ يَزِنُ بِهَا الْكَيَانَاتِ وَالْمَوَاقِفَ بَلْ وَالْإِنْسَانَ نَفْسَه، دَاعِيًا إِلَى الشَّهَوَاتِ وَنَزَوَاتِ الْجَسَدِ، جَاعِلاً الذَّاتِيَّةَ وَمُؤَشِّرَاتِ الْمَالِ وَالنَّقْدَ فَوْقَ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، يُشيْطنُ فِي الْوَقْتِ نَفْسِه الْخَيْرَ وَحَمَلَتَهُ فِي الْأَرْضِ.
نَعِمَ . “سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى” هَكَذَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الَّذِي يُفِيدُ الْوُجُوبَ كَمَا تقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ.
إِذًا لَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ مَعَ هَذَا التَّوْجِيهِ وَالْأَمْرِ سِوَى الالْتِزَامِ بِهِ .
دَعُونِي أَقُلْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ هُوَ الْمَلَاذُ الْآمِنُ وَالْأَسْهَلُ لِمُكَافَحَةِ مَوْجَاتِ الْحُزْنِ وَثَوْرَاتِ الْكَدَرِ اَلنَّفْسِي (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبَّحَ…)، وَالْأَسْرَعُ فَعَّالِيَّةً وَقُوَّةً لِقِيَادَةِ النَّفْسِ بِسَلَاسَةٍ تُمَكِّنُهَا مِنْ امْتِصَاصِ الصَّدَمَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الاتِّجَاهَاتِ فِي هَذِهِ الحَياةِ الَّتِي تَوَرَّمَتْ بِالْمَادِّيَّةِ وَالْأَنَانِيَّةِ، وَتَمَحْوَرَ فِيهَا الْكَائِنُ الْبَشَرِيُّ حَوْلَ كَوْمَةٍ مِنْ الذَّاتِيَّةِ الْمُزْعِجَةِ الْمُثِيرَةِ لِلشَّفَقَةِ وَلِلْقَلَق مَعًا.
لَقَدْ أُمِرَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي مَكَّةَ فِي خِضَمِّ صِرَاعٍ مَعَ الْكُفْرِ وَالزَّيْفِ وَحِيدًا أَمَامَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ مِنْ الظَّلَامِ وَالظَّالِمِينَ.
وَأُمر بِهِ وَهُوَ فِي قِمَّةِ الدَّوْلَةِ وَالنَّصْرِ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْح… فَسَبَّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفرهُ)، وَكُلّف بِهِ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ)
وَيَنْسَحِبُ هَذَا التَّكْلِيفُ إِلَى كُلِّ أَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَصْقَاعِ الْأَرْضِ.
هَذِهِ هِيَ الْوَقْفَةُ الْأُولَى.
وَفِي النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ مِنْ الْفِقْهِ: الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيح وَالْأَصْلُ فِيه الْوُجُوبُ.
وَفِيهِ: عُمُومُ أَوْقَاتِ التَّسْبِيحِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ فَعَمَّ كُلُّ الْأَوْقَاتِ.
وَفِيهِ: أن التَّسْبِيحَ وَالذِّكْرَ لَا يُشْتَرطُ لَهُ طَهَارَةٌ مِنْ جَنَابَةٍ وغيرها لِلْعُمُومِ وَعَدَمِ وُرُودِ دَلِيلٍ عَلَى الاشْتِرَاط.
وَفِيهِ: أنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ مُثْبتٌ لَهُ كُلُّ كَمَالٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّسْبِيح.
وَفِيهِ: أَنَّ تَعْظِيمَ الاسْمِ هُوَ تَعْظِيمٌ لِلْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ اللهَ أَمْرَ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ “سَبِّحْ رَبَّكَ الْأَعْلَى” فَدَلَّ عَلَى التعظيمِ لاسْمِه.
وَفِيهِ: إِثْبَاتُ الْعُلُوِّ لِله – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – (الْأَعْلَى).
وَفِيهِ: تَرْكُ عَدَدِ التَّسَابِيحِ لِلْعَبْدِ، بِلَا تَقْيِيدٍ وَمَا جَاءَ مِنْ أعْدَادٍ يَلْتَزِمُ بِهَا فِي مَوَاطِنِهَا أَمَّا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَالْأَمْرُ مُطْلَقٌ وَمَنْ قَيّده بِعَدَدٍ وَزَعَمَ بِدْعِيَّةَ مَا سِوَاهُ فَقْد زَادَ عَلَى أَمْرِ اللهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللهُ.
وَمَحَلُّ الذِّكْر مُطْلَقٌ، فَدَلَّ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ إِلَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ فِي اِسْتِثْنَائِهِ كَالْحَمّامِ، وَلَمْ يَصِحْ.
وَلَكِنَّ تَسْبِيحَ اللهِ وَذِكْرَهِ هُوَ تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يُنَافِي قَوْلَهُ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، أَمَّا ذِكْرُهُ أَثْنَاءَ الاسْتِحْمَامِ وَلَوْ فِي الْحَمَّامِ فَلَا تُنَافِي.
مِنْ فِقْهِ دُسْتُورِ الْعَالَمِ الْمَحْفُوظ.
أ.د. فضل_مراد
أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر