Dr.Fadil

افتتاحية

بقلم د. عامر الخميسي

0

إنّ أهمّ واجب على العلماء هو تأدية الأمانة التي حملهم الله إياها فقد أخذ عليهم عزوجل الميثاقَ ببيان الأحكام الشرعية وتبليغها للأمة وعدم كتمانها؛ فكان لزاماً عليهم التّصدي للفتوى في النوازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك إبراءً للذمة بالقيام بتكاليف إبلاغ العلم وعدم كتمانه، وهم بإظهار الحكم الشرعي يقومون بمهمتين:

الأولى: يبينون للعالم أجمع كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان ومكان، فالله عز وجل يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً).

الثانية: ينيرون السبيل أمام الناس بإيضاح حكم هذه النازلة حتى يعبدوا الله على بصيرة وهدى ونور؛ في منهج إسلامي واضح فلو تَرَك أهل الحلّ والعقد- وهم المجتهدون- التصدي لتلك النوازل دون إيضاح لأحكامها لصار الناس في تخبّط ثم استفتوا من لا يصل إلى رتبة الاجتهاد فيفتي بغير علم فيَضِلّ ويُضِلّ، والفقيه الموسوعي العصري هو الذي يحيط بفقه النوازل، وفقه الواقع، وفقه المقاصد، وفقه الأولويات، وفقه الموازنات.

وقد قال الإمام أحمد وهو يذكر شروط الفقيه : “وأن يكون عارفاً بالناس” .. فمعرفة أحوال الناس، هو الذي يسميه العلماء الآن “فقه الواقع” ؛ ومن مجالات فقه الواقع التي هي مشروطة الآن معرفة التيارات الفكرية والثقافية، والحركات السياسية والليبرالية، والتكتلات القومية واليسارية، والغزو الفكري وأبعاده ومخططاته، والحركات الهدامة، وحيل الماسونية، والنظام العالمي وأسسه وقواعده ونظرياته، والأخطار المحيطة بالأمة وسبل التصدي لها ؛ وأن يكون ملماً بقدر كافٍ من العلوم الكونية والنظرية والتطبيقية، فلو كان لا يعرف شيئا عن علم الفلك فكيف يفتي في قضية الحساب الفلكي والأهلَّة، ولو كان غير عالم بالثقافة الطبية فكيف يفتي إذن في مسائل النوازل الطبية المعاصرة

وكيف يعرف الحكم في تقنيات اختيار الجنين (الاستصفاء) والتلقيح الصناعي (الإخصاب المعملي) واستئجار الرحم (الرحم الظئر) والاستنساخ، والموت الدماغي، والإنعاش، وتداوي الإنسان بالإنسان كالتبرع بالأعضاء، ونَقْل أجزاء إنسان إلى إنسان آخر.

 

وإن كان جاهلا بالحقوق فكيف يفتي إذن في مسائل الحقوق المعنوية: مثل حق التأليف، وحق براءة الاختراع، وحق الاسم التجاري، وإن انعدم لديه فقه المال والتجارة المعاصرة فكيف إذن يفتي في مجال المعاملات المالية مثل التعامل بالسندات وشهادات الاستثمار والتعامل بالأوراق التجارية (الكمبيالة، والسند الإذني، والشيك)  من حيث تحصيلها ورهنها، والودائع الجارية في البنوك ثابتة كانت أو استثمارية وادخارية، والاعتمادات المستندية، وخطاب الضمان وغيرها من النوازل المالية.

 

فلابد أن يكون عنده قدر من العلم والثقافية حتى يعرف الحياة والناس، وشرط الإمام الشاطبي في موافقاته في حديثه عن المجتهد أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، متفهما لها، مدركا لكلياتها وجزئياتها، إذا أراد الارتقاء إلى درجة الاجتهاد.

وأهم من هذا كله أن تكون عنده ملكة الفقيه، هذه الملكة القادرة على استنباط الجزئيات من الكليات واستنباط الأحكام من القواعد والمقاصد من النصوص وقبل ذلك أن يكون ورعا ثقة عدلا يخاف الله وحده غير خاضع لحزب أو جماعة أو سلطان، وأن يكون عالما بالقرآن ناسخه ومنسوخه وإعرابه وفقهه، وعامه وخاصّه، ومجمله ومبيّنه وعلومه، وأن يكون ذا ثقافة واسعة بعلم الحديث ورجاله وكتبه مميزا الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، حتى لا تدخل عليه الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة عند إنزال الأدلة، كما أنه لابد عليه من أن يكون ذا دراية باللسان العربي لأنه هو اللسان الذي نزل به التشريع فيكون عالما بالنحو وبمسالك اللغة صرفا وبلاغة، وأن يكون متمكنا من معرفة الألفاظ ودلالاتها اللغوية الحقيقية والمجازية بحيث يتمكن من تذوّقِ كلام العرب ويعرف منه الحقيقة من المجاز والمنطوق من المفهوم، والكناية من التصريح.

 

بهذا العمق الواسع يمكن أن نطلق على الجامع لهذه الشروط فقيه العصر فنرجع إليه في النوازل معتمدين على قوله مستشهدين بفتواه، مستبصرين بإرشاده.

 

ولقد مر الفقه الإسلامي بخمس مراحل: أولها مرحلة التأسيس على يد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان هو الفقيه الأول الذي تولى تعليمه رب العزة والجلال واستمر هذا العصر إلى أن انصرم زمن الخلفاء الراشدين الذين كانت توجيهاتهم واجتهاداتهم أيضا سنة راشدة، واستمر العصر الأول طيلة حياة الصحابة، وقد كان الصحابة يسألون الخلفاء فيما أشكل عليهم، ثم جاء التابعون فكانوا يسألون الصحابة الذين عاصروا التشريع.

 

ثم جاءت المرحلة الثانية مرحلة خلو الأرض من الرسول وأصحابه فانبرى حينها سبعة من كبار علماء التابعين أطلق عليهم ” الفقهاء السبعة” فكانوا حينها منارات الأرض وأوتادها وسرج أعلامها حيث بقروا العلم بقرا وبسطوه بسطا.

 

ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي مرحلة المذهبية حيث قامت في هذا الزمن مدرستان: مدرسة أبي حنيفة وهي مدرسة الرأي (العقل) وموطنها العراق، يقابلها مدرسة الأثر (النقل) مدرسة مالك وموطنها الحجاز.

ثم جاء الشافعي ليتتلمذ على مالك وينتقل إلى العراق ليأخذ علم محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ليشكل مدرسته الجامعة بين العقل والنقل، وأسس علم الأصول فكانت قواعده حاكمة لعلم أصول الفقه، فكان هؤلاء الثلاثة هم شوكة الميزان وحجر الزاوية في تأسيس التمذهب الفقهي ليأتي تلميذٌ نابغة للشافعي وهو أحمد بن حنبل فيبرز في علم الرواية وكان إماما محدثا بلغ الغاية في علم الحديث حتى كان الشافعي يسأله مستفيدا منه في الروايات والرجال، ولأنه بلغ الغاية في علم الحديث فقد أشار عليه شيخه الشافعي بتولي قضاء اليمن لكنه امتنع وكان أهلا لها، ولأنّ كل محدث فقيه لا العكس فقد استحق بجدارة أن يكون رمزا كالثلاثة الذين سبقوه مغلبا الأثر وهذا عزز من مكانته العلمية السامقة ودفع بأصحابه لأن يجمعوا فقهه ومروياته وكوّنوا منها مذهبا مستقلا، ثم اتسع نطاق الفقه ونضج غرسه، وجمعت فيه المدونات المطولة، وكثرت المناظرات والمساجلات العلمية في الفقه والعقائد، وكثر التحرير والانتصار للمذاهب الفقهية حتى آخر القرن الرابع وكان هذا العصر عصر النهضة الفقهية.

 

ثم جاءت المرحلة الرابعة من أول القرن الخامس وهي مرحلة التقليد واتباع المنقولات وسد باب الاجتهاد وتعظيم المذهبية والتترس خلف الأئمة، وجاءت مراحل انحطاط مرت بها الأمة، وبعد تدمير المغول لبغداد في الشرق وسقوط الأندلس في الغرب..انتقل العالم الإسلامي من أوج ازدهاره وحركته وثقافته إلى حالة من الركود والوهن الحضاري..تزامن ذلك مع ما شهده الغرب من تحولات هامة، أوصلته إلى أوج التألق والازدهار، وكثر الاختلاف في الأمة وتسلط بعضهم على بعض غير أن الأرض لا تَخلو من قائم لله بحُجَّة، فقد جاء العز بن عبدالسلام وابن تيمية وابن القيم ونهض الغيورون على دينهم – في كل مرحلة من مراحل التاريخ – بعبء ثقيل نأتْ به كواهلهم، من خلال عرض التشريع الإسلامي عرضاً ميسراً مخلصا عن الشبهات، وحاولوا تذليل الصعوبات التي وقفت في طريق ازدهار الفقه لمدة من الزمن.

وحمل لواء التجديد في كل بلد أعلام كبار عباقرة ونهض في اليمن العلامة الجلال والمقبلي وابن الوزير وابن الأمير الصنعاني والشوكاني كلما غاب نجم خلفه آخر في ظل صدود مريع وإرهاب مذهبي وعقدي مُخيف.

 

ثم جاءت المرحلة الأخيرة مرحلة النهضة الفقهية المعاصرة والإصلاح الديني وأصبح لزاما على العلماء إبرام عقد جديد يوحد ما بين علوم النقل وعلوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر وقد ظهر جهد العلماء واضحاً من خلال ما قدموه، فرادى وجماعات، وما أصدروه من فتاوى، وما أ لّفوه من كتب، وما أسـسـوه من مجامع فقهية، وما جمعوه في موسوعات، يرجى لها أن تحلق بالفقه الإسلامي لاستعادة مكانته المرموقة.

 

إن تجديد الفقه الإسلامي يقتضي ربطه بالواقع، ليكون الحاضر متسقا موصولا مع الأحكام المنزلة وبهذا يجري التوظيف والتطابق بين الواقع الاجتماعي وبين الأحكام الشرعية.

وتمكين الفقه الإسلامي ليحدث التغيير المنشود في واقعنا المعاصر، يتوقف على قوة فهم المجتهدين لنصوص الشرع، وعِظم إدراكهم للمقاصد، وإحاطتهم بأبعاد الواقع ليوفّقوا بين الواقع والنص، وكلما كان فهم المجتهدين للنص فهما صحيحا كلما كان تعاملهم مع الواقع تعاملا سديدا، فالفقيه الحق هو من يفهم الواقع الذي يُنَزَّلُ عليه الحكم الشرعي ويوازن بين المصالح والمفاسد، ويتحقق من انطباق علة الحكم في النازلة المعروضة، مع اعتبار خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من الضرورات والاستثناءات.

 

إن الأمة اليوم تحتاج لاجتهاد عميق يستوعب كل أمورها؛ لأن الإسلام يستوعب الحياة الإنسانية ولا يتناقض معها، ولأن الفقه الإسلامي ينظم حياة المسلم في كل شؤونه ، وهو بشموله صالح لكل زمان ومكان وقادر على مسايرة روح كل عصر ويتماشى مع مصالح الناس والمُهم أن يكون لدينا اجتهاد حقيقي صادر عن الإطار العام الثابت ويستوعب قضايا العصر.

وكفاك بمقدمة فقه العصر من مقدمة فقهية أشرقت في زماننا فهي نافعة جامعة ماتعة، شافية وافية كافية ولها خصائص ثلاث تميّزت بها:

 

أولها: جودة الترتيب، وجمال التبويب، فهذه المقدمة ملائمة لروح العصر بجودتها، قريبة من القارئ أيا كانت ثقافته واطلاعه وعلمه فهي تُعنى بوضع العناوين التفصيلية، التي تدلُّ على المراد، إضافةً إلى العناوين الكلية التي تُحدِّد موضوع المسائل، وتفرز الموضوعات بعضها عن بعض، وترتب الأفكار داخل الموضوع، أو المسألة الواحدة فهي – بشكل عام – أكثر دقَّةً ومنهجيَّة من غيرها، وهي أجمل ترتيبًا وتسلسلاً؛ وأقرب مُتناوَلاً، وأيسَر مأخذًا.

 

ثانيها: سهولة الأسلوب ووضوحه ومناسبتُه؛ فهي تتحدَّث بلغة العصر، وتَضرب الأمثلة من واقع العصر، وتستعمل العبارات والمصطلحات التي يتداولها أهل العصر؛ ولذلك يَشعُر القارئ بأهمية معالجتها للموضوعات.

 

ثالثا: اعتمادها على فقه تجديدي ينفح بروح الاجتهاد جامعة بين الأصالة والمعاصرة.

ولأنها مقدمة فإنّه لم يفصل فكان إيراده لتعليل الحشاشة لا لإرواء الغلالة.

وقد أشرنا هنا إلى مقدمة فقه العصر كونها اللبنة الأولى لفقه موسوعي معاصر انتهجه فضيلة العلامة الدكتور فضل عبد الله مراد أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والأستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر.

وفي هذه المقدمة كتب الدكتور فضل وحرّر ثروة فقهية عصرية ليقيم بذلك الدليل على أن الفقه الإسلامي ثابت راسخ بأصوله وقواعده، متحرك متجدد باستخراجاته واستنباطاته، صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، يسع الحياة وأحداثها المتلاحقة في مختلف الأوقات والأحوال.

 

لقد دَرَسَ الدكتور فضل الفنون حتى أشير إليه بالانفراد، وترقى سبل المعالي حتى بلغ المراد، وتحضرني هنا أبيات قلتها قديما أذكر منها :

هو ذلك الفضل الذي بلغ المُراد

هو ذلك الغيث الذي أحيا البلاد

 

هو ذلك البدر الذي أهدى لنا

نورا يشعشع ماحيًا كلّ السواد

 

هو صاحب الفقهِ المجدّد مُحييا

فقه اليمانِيْنَ الألى أهل الرشاد

 

سارٍ على درب الوزير بهمةٍ

وابن الأمير البدر سبّاق الجياد

 

فكأنّه قاضي القضاة محمدٌ

أوكالضيا وابن الجلال فذا عماد

 

شهد الأباةُ بعلمه وبفضلهِ

رأسُ العلوم ونجمها في كل ناد

 

ومن هذا الموقع سينطلق فقه القرآن وصناعة الإنسان، وعلم المقاصد وتأصيلها، ومعالم الاجتهاد المعاصر، وثبتُ تراجم العلماء المجددين، وزوايا ومنتديات لكبار علماء الأمة، وفتاوى عصرية، ومعالجات لواقع الأمة المرير ومحاولات للنهوض به، ورؤى وأفكار نهضوية واقعية، واستشارات علمية تأصيلية تربوية لعلنا نكون قد أسهمنا بوضع لبنة في صرح بناء مجد أمتنا والله وحده المعين وعليه نتوكل ولا حول ولا قوة إلا به..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.