الدكتور فضل مراد مسيرة علمية لمدرسة يمانية متجددة .. الحلقة الثانية
د. محمد السعيدي
(2) كتاب ” مقدمة فقه العصر” ومؤلفه العلاّمة الدكتور فضل بن عبد الله مراد
لقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على فقه أهل اليمن بنصوص صحيحة صريحة، ومدح علمهم وحكمتهم لما قال:
كما في البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ) وفي رواية لمسلم (52) ِ: ( جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ )
والمقصود بأهل اليمن هنا ما عُرف منذ الزمن الماضي باليمن كما هو معلوم عند أهل معاجم البلدان، قال ياقوت الحموي رحمه الله في “معجم البلدان” (5 /447) :
” قال الأصمعي: اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران ، ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان ، فينقطع من بينونة ، وبينونة بين عمان والبحرين ، وليست بينونة من اليمن .
وقيل: حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود واليمن تجمع ذلك كله ” انتهى من
وهذا القُطر من البلاد اليوم يُعرف بجنوب الجزيرة العربية.
وينبغي أن تحمل النصوص الواردة كهذا الحديث وأشباهه على ظاهرها وكل التأويلات المتكلفة في ميزان العلم والتحقيق ساقطة لا قيمة لها ، كقول من قال إنما عنى بذلك أهل مكة والمدينة ، أو عنى بذلك أهل البيت ، فهذه وأشباهها مخالفة لظاهر الحديث ، كما يدل عليه قوله ( أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ ) ، ( جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ ) والواجب الأخذ بالظاهر ولا يُتعسف في تأويل النصوص بمثل تعسفات البعض ، ولا يجوز العدول عن الظاهر إلا ببينة ظاهرة، وهذا ما مشى عليه الأئمة المحققون كالحافظ ابن الصلاح والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما، وصدق الحافظ ابن الصلاح لما قال (ولو تأملوا ألفاظ الحديث لما احتاجوا إلي هذا التأويل)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح(352/6)
(حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ قَوْلُهُ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ بن أبي خَالِد وَقيس هُوَ بن أَبِي حَازِمٍ قَوْلُهُ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ فَقَالَ الْإِيمَانُ فِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَمَانٍ الْأَنْصَارُ لِكَوْنِ أَصْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ لِأَنَّ فِي إِشَارَتِهِ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُهَا حِينَئِذٍ لَا الَّذِينَ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنْهَا وَسَبَبُ الثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إِسْرَاعُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَبُولُهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبُولُهُمُ الْبُشْرَى حِينَ لَمْ تَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ..)
وكذلك رد الحافظ العيني علي مثل هذا الأقوال واستغربها ، قال في عمدة القاري(192/15)
(وَقيل إِنَّمَا قَالَ هَذَا القَوْل للْأَنْصَار لأَنهم يمانون وهم نصروا الْإِيمَان وَالْمُؤمنِينَ وآووهم فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم وَهَذَا غَرِيب وَأغْرب مِنْهُ قَول الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ أَنه إِشَارَة إِلَى أويس الْقَرنِي..)
والقول أنه يشمل كل أهل اليمن، قول معروفٌ لجماعة من السلف، ولذا قال الطبراني في المعجم الصغير(322ص) (وقال بعضهم أراد به قبائل اليمن عامة)
وقد أورد الحديث الإمام الترمذي في الجامع (726/5) ضمن باب فضائل أهل اليمن.
وعبارة الحافظ ابن رجب تدل على أنه يرى أن هذا الأمر مطردٌ ومستمرٌ في أهل اليمن ، فقد قال، في رسالته فضل علم السلف على الخلف”:
(ويشهد لهذا قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهلُ اليمن، هُمْ أبرُّ قلوبًا، وأرقُّ أفئدةً. الإيمان[ ] يمانٍ، والفِقه يمانٍ، والحكمة يمانيةٌ» (رواه البخاري[ ] [4388]، ومسلم [52]). وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومَن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني، وأويس القَرَنيِّ، وطاووس، ووهب بن منبه، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن).
وقال أيضاً-رحمه الله-
(وقد شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل اليمن بالإيمان والفقه، وأهل اليمن أقل الناس كلامًا وتوسعًا في العلوم، لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك، وهذا هو الفقه والعلم النافع، فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق).
وقد رحل إلى اليمن جماعةٌ من كبار الأئمة وأعيان الحفاظ كالإمام أحمد بن حنبل والإمام يحيى بن معين، ومن المتأخرين الحافظ ابن حجر إلى زبيد ، ولقد كان الحادي يحدو في العراق ويقول:
لابد من صنعاء وإن طال السفر…..لطيبها والشيخ في هجرة دبر
والمعنى أنه لا بديل عن الرحلة إلى صنعاء حيث يعقوب بن إبراهيم الدبري صاحب أول هجرة من هجر العلم اليمنية، والهجرة بمصطلح اليمنين منذ القديم أشبه بالجامعات الحديثة التي يسكن فيها الطلاب متفرغين لطلب العلم، وقد ألف الوالد القاضي الأكوع –رحمه الله كتابا سماه(هجر العلم ومعاقله في اليمن )من ستة مجلدات..
ثم اليمن أخرجت علماء وجهابذة وأنتجت كتباً ومصنفات سارت بها الركبان، وتحدث عنها الناس في مختلف الأزمان ، وأقبلوا عليها في كل البلدان.
ومن الصعوبة بمكان الحصر والاستقصاء لهذا الأمر ولكن علي سبيل المثال:
(1) أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني 211 هـ ، من حفاظ الحديث الثقات، الملقب بـ محدّث اليمن.
كان يحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث. له (الجامع الكبير) في الحديث،
قال عنه الذهبي: “وهو خزانة علم”، رحل إليه أعيان المحدثين وساداتهم مثل الإمام أحمد بن حنبل والإمام يحيى بن معين.
(2)الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي ت558هـ، انتهت إليه رئاسة الفتوى وإمامة المذهب الشافعي في اليمن، صاحب كتاب(البيان) الذي يكثر النووي من النقل عنه في المجموع.
(3)الإمام العبقري أبو بكر إسماعيل المقري من أذكى أذكياء علماء العالم، ت 837هـ ألف كتباً لم ينسج على منوالها ولا يُستطاع، ومن كتبه:
1-“عنوان الشرف الوافي في النحو والصرف والفقه والقوافي” يُقرأ الكتاب من كل الاتجاهات، وكل اتجاه في فنٍ من الفنون.
2-وله كتاب” الإرشاد” في الفقه، الذي أُطلق عليه” الجمل الهائج” لعسر عبارته، وجزالة ألفاظه، وقد وذكروا أنه أرسله إلي أهل مصر فأرسلوا له هذه العبارة ” جملٌ هائج مش جملك” شبهوه بالجمل الحارن الذي يرفض القيام والمشي ، فكتب لهم عليه شرحاً سماه” تمشية الجمل”.
(4) الإمام محمد بن إبراهيم الوزير ت840هـ، أحد الأئمة الكبار والفحول العظام، قال عنه الشوكاني، كما في (البدر الطالع):
“ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه فإنه يثنى على من هو دونه بمراحل ولعلها لم تبلغ أخباره إليه وإلا فابن حجر قد عاش بعد صاحب الترجمة زيادة على اثني عشر سنة كما تقدم في ترجمته.
وكذلك السخاوي: لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه ولطال عنان قلمه في ترجمته ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمى”.
ثم الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والعلامة صالح بن مهدي المقبلي اليماني والإمام محمد بن علي الشوكاني، والعلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى لمعلمي والشيخ المحدث الوادعي ولا يزال الفقه والعلم يشيع ويُبث من اليمن.
أتمني أن يكون كتاب ” المقدمة في فقه العصر” هو الحلقة المتصلة…
الحلقة المتصلة بمشاريع الفقه اليماني السابقة، فهو إن شاء الله سعي من الأحفاد على خطى الأجداد، وتسنمٌ من الخلف لطريق السلف، وقد حظي الكتاب بثناء ثلة من فقهاء العصر وعلمائه ومفكريه، منهم:
1-الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، الذي يلقب مؤلف الكتاب بعلاّمة ا ليمن، وقد قال عنه كما قال لي الدكتور فضل:
“هو مقدمة للفقه بمثابة مقدمة ابن خلدون للعلم الاجتماع”
2- شيخنا القاضي العلاّمة محمد بن إسماعيل العمراني.
قال عنه ” موسوعة في جميع أبواب الفقه الإسلامي أو دائرة معارف الفقه الإسلامي”
وأتمنى أن يكون بأسلوبه الذي صاغه به مؤلفه، مع الاستيعاب الذي أتى علي جملة كبيرة من الأبواب والأنواع والمسائل المستجدة قد أضاف بالفعل شيئاً جديدا إلى ميدان العلم والفقه والفكر، فقد ذكر مؤلفه كما في مقابلة له في جريدة عكاظ الأبواب التي اشتمل عليها الكتاب، قال:
أربعة وعشرون بابا من فقه العصر، وفيه آلاف المسائل وحلولها الواقعية، القائمة على العدل والرحمة والاعتدال والتوسط وإيتاء الحقوق والإحسان ودفع الظلم والمآثم والبغي والعدوان..
أربعة وعشرون بابا هي :
الفقه الوظيفي، الفقه الطبي، فقه الدعوة، فقه الأقليات، فقه الدولة وسياساتها ومؤسساتها والمعارضة السياسة، فقه المال العام، فقه السمع والطاعة والتغيير وآلياته، فقه المؤسسة العسكرية والأمنية وفقه الجهاد والمقاومة، فقه التربية والتعليم، فقه المجتمع المدني والقبيلة، فقه البيئة والصحة، فقه المرور والسير، فقه السياحة، فقه الشباب، فقه اللهو والترفيه، فقه الإعلام، فقه الفن، فقه التكنولوجيا، فقه الطفل والولد، فقه المرأة، فقه حقوق الإنسان، فقه اليتيم، فقه الأموال والاقتصاد المعاصر
إنني أقدم مشروعا لمنهج حياة.. يكون العالم فيه واحدا على السلام والعدل، ربه واحد، هو من خلقه «وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون».
قائم على «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى».
قائم على «لا إكراه في الدين».
تقوم فيه العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والدول على ستة أمور: تعاونية، تبادلية، مثلية، سلمية، عادلة، تعارفية.
وقال عنه:
هذا الكتاب «المقدمة في فقه العصر» ألفته لكل سياسي أو قائد، لكل ملك ورئيس وأمير وسلطان وحاكم، أو موظف أو طبيب أو حقوقي أو عسكري، أو مدني، أو اقتصادي، أو امرأة وطفل ورجل وشاب، للمجتمع المدني، للقبيلة، للإنسان، للإعلاميين والفنانين، للتكنولوجيين، للتربويين والمعلمين، للدعاة، للسياح، للجاليات والأقليات، للمرور، للمستثمرين، للبنوك، للعلماء والدعاة وطلاب العلم والمفكرين، لكل أمٍ وأب، لكل مسلم ومسلمة.. لكل إنسان..
* كان بعض المستنبطين في هذا العصر يستفيدون مما عالجه القانون الوضعي الغربي للمسائل، ثم يعرضونه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تبدأ عمليات التخريج والتكييف لإصدار حكم مناسب، أما هذا الكتاب فنرجو أن يستفيد منه القانون الوضعي، وإذا شرحناه وفصلناه كمشروع تالٍ إن شاء الله، وإذا فصلنا كل فقه على حياله بإصدار مناسب كمشروع يتلوه، وإذا ترجم للغات عديدة كمشروع ثالث، فسيكون بإذن الله مرجعا يستفيد منه القانون في العالم، والحياة الإنسانية، لا لشيء إلا لأنه مستنبط من قانون الكون والحياة المعصوم وهو القرآن والسنة الصحيحة، ومقاصدهما وقواعدهما وأصولهما.
أقول هذا ليعلم العالم ما عندنا من الرحمة الرسالية الخاتمة القائمة على العدل والإحسان والاعتدال والتوسط والمساواة والحريات وإعطاء كل ذي حق حقه ومحاربة الظلم والتخلف والبغي والعدوان والغلو والتطرف (وما أرسلناك إلا حمة للعالمين)، وأعتبر خدمة الإنسانية لإفادتهم بهذا عبادة وفريضة.
ولا أقدمه ككتاب لا يقبل الخطأ؛ لأن هذا غير ممكن لإنسان، بل أقدمه للناس كمقدمة لدليل الحياة الطيبة التي نرجوها للبشرية” أ هـ
وأخيراً هذه نبذة أحببت أن أقدمها عن كتاب” مقدمة فقه العصر ” وعن مؤلفه، أتمنى أن أكون قد وفقت في عرض الرسالة التي أردت عرضها، والحمد لله رب العالمين.
وكتب الشيخ/ محمد السعيدي
فجر الثلاثاء 9شوال 1435هـ
برمنجهام-بريطانيا