ورأس شروط القتال في سبيل الله أمران:
الأول: بذل غاية الاستطاعة في إعداد القوة العامة، وهي أربعة أمور: القوة البشرية، وجمع الكلمة، والقوة المالية، والقوة التدريبية. وهذه الأربع خاصة بالقتال بخلاف ما سبق من الإعداد العام مما ذكرناه آنفا.
الثاني: بذل غاية الاستطاعة في الإعداد الحربي والتسليح؛ فتكون الشروط تفصيلا خمسة: الأربعة المذكورة، والتسليح.
وتكون الشروط إجمالا شرطين: القوة العامة، والقوة الحربية.
ودليل هذين الشرطين قوله تعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» (الأنفال:60).
فالقوة العامة «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة»، وهذا عموم. فيشمل ما هو عام بالأمة ونهضتها على وجه عام وما هو متعلق بالقتال، وهو ينقسم كذلك إلى عام وخاص، فالقوة العامة أربعة أمور، والخاصة هي القوة الحربية.
والقوة الحربية: معطوفة عليها «ومن رباط الخيل».
وإنما قلنا «غاية الاستطاعة»؛ لأن الآية تدل على ذلك بـ«ما» المصدرية المنسبكة مع المصدر الدالة على غاية الاستطاعة.
ورباط الخيل: هو كناية عن القوة الحربية، وهو كقول العرب فلان له أياد بيضاء، أي عطاءات، ومنه قوله تعالى «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسط كل البسط» (الإسراء:29).
وهذا كناية عن الإسراف والإقتار، ومن ظن آية رباط الخيل على ظاهرها أشكل عليه أن القوة في هذا العصر مختلفة.
وجوابه أنها كنايةٌ عربية بليغة معروفة عند العرب دالة على البأس
والإعداد الحربي والقوة العامة هي:
– القوة البشرية – وجمع الكلمة – والقوة المالية – والتدريب القتالي.
فهذه أربعة أمور يضاف لها التسليح بدلالة رباط الخيل، فتصير شروط القتال خمسة:
القوة البشرية:
فالقوة البشرية محددة بالنص لقوله تعالى «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون* الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين» (الأنفال:65-66).
فشرط للقتالِ وجود حد أعلى أو أدنى من القوة البشرية.
فالأعلى: أن يكون واحد مقابل اثنين من الكافرين.
والأدنى: أن يكون واحد مقابل عشرين من الكافرين.
ثم جعل الأصل واحداً مقابل اثنين وغيره تخفيفا بالنص.
وترك الخيار فيما سوى ذلك لتقدير المسلمين؛ فإن كان العدو المحارب الكافر أضعافهم عشرين مرة لكن يستطيع المسلمون المواجهة ومعادلة التوازن بأنواع من التخطيط والتكتيك القتالي ففرضٌ المواجهة.
وذلك في أكثر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي بدر وأحد كان العدو ضعفهم نحو ثلاث مرات، وفي الخندق كان العدو ضعفهم نحو عشر مرات، ولكن التكتيك الحربي والقتالي في هذه الوقائع سد الفجوة؛ كاختيار المكان القريب من الماء في بدر؛ وكجعل فئة من المقاتلين في مكان استراتيجي تصيب العدو وتحمي الظهر في أحد.
وأما في الخندق فحَفَرَ الخندق وهي وسيلة حربية فاجأت الأعداد الكبيرة من الأحزاب وعطلت إمكاناتهم، وأصبحت المعركة دائرة على استنزاف القوى، ولا شك أن ذلك أثر في معسكر الأحزاب تأثيرا بالغا فاستنزف المؤن التموينية طعاما وشرابا للمقاتلين وللمراكب الحربية من خيل وأبعرة.
وأوقع ذلك بينهم التلاوم والخوف؛ مما هيأ للجهد المخابراتي لمعسكر الإسلام في الوقيعة بينهم، وتفكيك حلفهم بأمرٍ واطلاعٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جمع الكلمة:
أما الشرط الثاني للقتال في سبيل الله فهو جمع الكلمة ووحدة الصف وعدم الفرقة والتنازع.
فإذا تفرقت الكلمة تفرقا يعود على المقصود من القتال في سبيل الله بالضرر والإبطال، انتظرنا عن بدء مباشرة القتال؛ لوجوب إزالة هذا المانع مع استمرار الإعداد.
والدليل على أدائه إلى خلاف مقصود الجهاد في سبيل الله قوله تعالى «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين» (الأنفال:46) والفشل وذهاب الدولة والهيبة من أعظم المفاسد.
القوة المالية:
أما اشتراط القوة المالية المستطاعة لوجوب الجهاد فدليله قوله تعالى «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم» (التوبة:91).
فلما لم يجدوا ما ينفقون بالنص ولم يجدوا عطاء رفع الله عنهم الحرج.
التدريب القتالي:
وأما اشتراط التدريب فلقوله تعالى «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم» (التوبة:91).
والضعفاء هنا هم كل من لا يستطيع القتال لعلة ضعف، كالنساء والأطفال والشيخ الهرم، ويلحق بهم الأعمى والأعرج كما تفيده نصوص أخرى.
فإن كان الضعف لعدم تدريب معتبرٍ على القتال والسلاح والكر والفر؛ فإن النص يشمل في الأعذار من كان فيه ذلك.
وفرض عليه وعلى الأمة كافة تحصيل هذه الشروط الخمسة للقتال في سبيل الله كما يفرض على المصلي الوضوء ونحوه؛ لأنه شرط لا تصح الصلاة إلا به.
وفرض عين على الدولة أن تحصل شروط الجهاد في فئة كافية من الشعب للقيام بذلك ببناء قوات مسلحة عالية التدريب والكفاءة قادرة على القيام بذلك.
قوة التسليح:
وأما اشتراط التسليح فدليله «ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون» (التوبة:92)؛ لأنهم لما عدموا المال لشراء السلاح وعدة الحرب ذهبوا إلى رسول الله ليعطيهم السلاح والعدة ولم يكن عنده ما يعطيهم فأعذرهم الله، فدل على اشتراط التسليح لفرض حضور المعركة.
فقه الجهاد _ المقدمة في فقه العصر
أ.د. فضل_مراد
أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر