Dr.Fadil

سياسة فرعون

أ.د فضل مراد

0

 

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4).

 

هذا تلخيص دقيق لوضع سياسي في حقبة زمنية في مصر -شعب بني إسرائيل- وكان وجود هذه الأقلية في مصر من عهد يوسف-عليه السلام- لما حكم فيها وجاءت أسرته وأهله قال ابن عباس: كانوا اثنين وثمانين بين رجل وامرأة.

 

ثم إنه ولد ليوسف إفراثيم وولد لهذا نون وولد لنون يوشع بن نون وهو النبي الذي أوقف الله له الشمس حتى فتح الله عليه، وهو نفس فتى موسى الذي رافقه في رحلته البحرية كما حكى الله في سورة الكهف كما قال القرطبي وغيره والحاصل أن هذه الأقلية تكاثرت حتى وصل تعدادها زمن موسى حين فر بهم من فرعون ستمائة ألف وهم الذين نجاهم الله من فرعون وأهلكه غرقا.

 

وحقيقة إن هذا الاستبداد الفرعوني لم يوجد في أي حقبة زمنية أبدا لأنه وصل إلى أن الجند يأخذون كل ولد ذكر لبني إسرائيل ويذبحونه.

 

ومن جهة أخرى يصور ذلك هذا الشعب الذي كان أبسط شيء عليه أن يفر من مصر ويهاجر، ولكنه العجز البالغ من الشعب والعلو البالغ من رأس السلطة.

لقد كشف الله تعالى عن جوهر السياسة الفرعونية في هذه الآية في ثلاث نقاط..

 

الأولى: العلو في الأرض.

والثانية: تفتيت قوة الشعب بتقطيعه وتشييعه وتمزيقه إلى كتل صغيرة متناحرة.

والثالثة: التنكيل بالمخالف، وتصفية الخصوم..

 

هذه هي السياسة العامة للفرعون وهي مضادة في جميع حالاتها لمقاصد الدين من السياسة فإنها في حقيقتها ليست علوا في الأرض بل خدمة وإعمارا وتنمية وإصلاحا.

 

إن قصد العلو في الأرض على الآخر، على الشعب، على المستضعفين، هو مقصد فرعون ومن حذا حذوه إلى يوم القيامة.

لذلك وصف الله أهل التقوى سواء كانوا حكاما أو غيره بقوله (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، نعم إن أهل الرسالة لا يقصدون بالحكم أو المنافسة عليه أو خوض الانتخابات للوصول إليه العلو في الأرض ولا الإفساد فيها.

 

لذلك تراهم لا يحرصون على شخصنة الولاية في أحد أو حصرها في عنصر أو سلالة لأنه لو قصد ذلك لقصد العلو في الأرض لبعض والصغار لبعض.

 

أيها الإخوة.. إن الولاية ليست للعلو والتجبر والاستقواء، إنها فقط لخدمة الأمة وإقامة مصالحها، إن الحاكم حينما يكون عاليا يكون الشعب تحت قدمه حينئذ، وماذا يخاف من شيء يمكن أن يدوسه متى شاء، لا شيء في الحقيقة، ثم الأمر الآخر: لاحظوا سياسة التفريق والتفريخ الشعبي لفرعون، لقد أدرك أن الشعب لو كان متحدا لما حكم، إذا فالحل أن يجعل الشعب شيعا مفرقة، ممزقة متناحرة كلاً مشغول بالآخر، وهذه السياسة هي ما تعرف اليوم بإدارة البلاد بالأزمات.

نعم لأن الشعب لو كان واحدا في يقظته وفكره وحريته فلن يجدي معه حتى بطش فرعون، إن فرعون استخدم هذا الأسلوب السياسي من باب «فرق تسد».

 

لأن أي طاغية في الأرض -ولو كان فرعون نفسه- لا يقوى على مواجهة سلطة الشعب ويقظته وصحوته ويدل دلالة أخرى كذلك على أن أي طاغية مستبد لا يمكن أن يبقى في الحكم إلا بسياسة تصدع المجتمع وإشغاله بالأزمات ودوامات المشاكل ولكن إذا وصل الحال إلى هذا فهي فاتحة الخير وبداية الإنقاذ وأول خطوات التغيير.

والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5).

 

أ.د. فضل مراد

أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر

من مقالات فقه التنزيل عمود ص الاهالي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.