فندق الزوجية
الحقيقة أن المرأة اليوم ظُلمت كثيرًا؛
فقد خدعوها وصدقت ذلك الخداع.
لقد تأملت مع نفسي كيف يمكن أن تتقبل النفوس الضيم والظلم والخداع، فوصلت إلى أنه لا يمكن للظلم أن تتقبله النفس إلا بغطاء يجعله ضمن قيمة تحبها النفس، وهذا ما يفعله الطغاة، بتحويل الظلم والقهر والإذلال إلى قيمة.
قد تكون القيمة دينية، وهي التي لبسها فرعون وأمثاله في عالمنا من أهل الاستعلاء والحق الإلهي، أو باسم الوطن والعرق كهتلر، أو الحزب والولاء والطبقية كماركس، أو باسم الحقوق التي تدرع بها النسويون.
هناك منظمات ومؤسسات ونسويون في موكب المرأة كثير، وكلهم يهيجون عاصفة من العواطف النسائية تعصف بجمالها وروعتها.
دعوني أخاطب العقل والعاطفة،بالقول:
أ- المرأة كلفت بدوام انسيابي مع فطرتها هو في الحقيقة مدمج بحياتها، لا تشعر به، ولا تمل منه.
إنه رعاية الخلية الأم أخطر وظيفة بشرية على الإطلاق، إن هذه الخلية مجموعة في سكن «بيت» رجل وامرأة، وصبية صغار، هذه وظيفة أصلية.
إذا أرادت أن تضيف لنفسها وظيفة أخرى في دوام ساحق ممل بصخب الكبار، ونميمة الكبار، وخداع الكبار، وصراع الكبار، فلتفعل، لكن ماذا ستصنع بوظيفتها الأصلية؟ ستأتي بـشغالة، أو حاضنة، أو مربية، أو تضع أولادها في روضة فيها كل هذه المفردات.
لاحظوا أني لم أقل شغالاً، حاضنًا، مربيًا؛ لأن المرأة نفسها لا يمكن أن تضع صغارها عند رجل حاضن، بغض النظر عن كل ما يخطر على البال، لكن السبب ببساطة أن الرجل غير مناسب لهذه الوظيفة؛ لإنها خارج اختصاصه ومؤهلاته النفسية والفطرية.
إذن، المناسب امرأة حاضنة، لماذا؟
هكذا هي الفطرة التي وضعها الله سبحانه.
و المرأة أحن، وأشد احتمالاً، وأكثر دربة وملاءمة لهذا، وما الحضانة والتربية إلا وظيفة مؤهلها الحنان، وهذه في فطرة المرأة مسلّمة لا جدل فيها.
ولهذا قدم الإسلام الأب في ولاية النكاح؛ لوفور رحمته وحبه لابنته.
أيتها الأخت والأم والزوجة: سلي فطرتك هنا: لماذا هذا الاختيار لطفلك؟
أيها المجتمع.. يا قيادات العمل النسائي: إن المرأة هي ناموس التربية والإكرام للأجيال، ولو كانت السيدة الأولى في الدولة، كزوجة حاكم أو غاشم، وهذا ما قاله وزير مصر الأعلى لامرأته السيدة رفيعة المستوى: «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا».
بل امرأة أكبر ديكتاتور على وجه الأرض هي التي تفجرت عاطفة حامية لقيادة الدعوة المستقبلية «موسى» حيث أراد فرعون قتله فقالت: لا.. لا.. «لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا».
إنه قرار حماية نسوي غيّر الله به مجرى التاريخ، إنه الحب الموضوع في قلب تلك المرأة للطفولة «وألقيت عليك محبة مني».
ولا عجب، فالحب مصدر التغيير والسلام والحماية.
تصوروا لو كانت امرأة فرعون موظفة في دوامها الصباحي خارج القصر، كان سيعدم ذلك الطفل عادة، ثم لماذا جاء سبب النجاة من امرأة؟
لقد كان الله قادرًا على منع فرعون من قتله بأي وسيلة حتى من قلب فرعون نفسه، لكنه سبحانه وتعالى يضع السنن في مواضعها.
إن رعاية الطفولة وحمايتها مصدرها الأول المرأة كانت من كانت، امرأة وزير، امرأة ملك، امرأة عامل، هذه هي السنة وهذه هي الفطرة.
انظروا إلى هؤلاء أعداء الطفولة والمرأة والأسرة كيف جعلوا ذلك تخلفًا ورجعية وهضمًا لحق المرأة؟
ثم قرروا أن حقها أن تكون أجيرة لأجنبي، آنسة وراء الحاسوب سكرتيرة أو زميلة بجانب زميل، مديرة عمل أو مضيفة طيران أو عارضة أزياء أو غلاف دعاية أو ما كانت.
أما أن تكون موظفة لحبيبها الزوج أو فلذات أكبادها أطفالها، أو راعية لمؤسسة الأسرة المسمى البيت
فهذا هو الهضم والظلم والرجعية والعار، أي سخافة وبلادة يحمل هؤلاء؟!
ب- صورة أخرى: أم تركت طفلا عند موظفة؛ لأنها موظفة.
هذه الموظفة هي الحاضنة والمربية، إذن موظفة تركت ولدها لموظفة أخرى، لأن حقيقة الحضانة من غير الأم أجرة بعوض، إنها معاوضة محضة، تأخذ أحكام الإجارة.
إذن هي تربية للطفل مقابل المال، ولماذا؟ لأن الأم موظفة أجيرة مقابل المال.
تركت طفلها لأجل المادة، واستأجرت بالمادة أمّاً أخرى، هذا إذا كان ثم مربية، أما لو لم يكن فهو شيء آخر.
ج- بعد ساعات دوام قاتل لأعصاب الأقوياء تصل قرب العصر موظفة من عملها، مهدودة، ضانكة، مرهقة، فتفتح مع زوجها الآتي من وظيفة أخرى الباب ويدخلان إلى الفندق، وصدقوني إنه فندق لا أقل ولا أكثر، لأن معنى البيت غير موجود فيه أصلًا، ومعنى السكن غير موجود، وهي ربة البيت التي قال الله عنها «وجعل منها زوجها ليسكن إليها».
د- تقوم المرأة المحترمة التي تزاحمها فطرتها وتدافعها في أول وصول البيت بإعداد وتجهيز واهتمام بالغداء والطفل و…إلخ
أهذا بالله عليكم هو العدل أن يضاف عليها عمل آخر؟
إذن ما الحل؟
استأجروا شغالة، طباخة، إضافة للحاضنة، فيذهب ما تجمعه في كدها وكد زوجها أدراج الرياح.
وقد تكون متيسرة الحال أو زوجها فيسهل عليهما ذلك لكنا نتحدث عن الغالب لأن الأحكام تبنى على الغلبة لا الندرة.
حل ثالث: أن يشترى الطعام من الخارج لهما ولأطفالهما فحينئذ تزداد صورة «فندق الزوجية» وتشحب الحياة كشحوبة أكل المطاعم.
صدقوني إن طعامًا من يد الزوجة ربة البيت هو دواء ومساج وحمام منعش!!
هـ- أنا لست من المحرمين لعمل المرأة في الجملة، ولا من الداعين له لأن الدعوة إليه معناه عدم العدل معها، ولأن التحريم لا يمكن تنزيله على جميع الجزئيات ولا كذلك الإيجاب بل هو بحسب النازلة.
فنحن بحاجة مثلا إلى طبيبات مختصات من النساء لكفاية التعداد السكاني النسوي المضاعف على الرجال. طبيبة باطنية، جراحة، توليد…
هل من التطور والتحضر أن يباشر التوليد وغيره معاشر الرجال للنساء؟
ولو قلنا بخلاف ذلك كنا متخلفين.
يا للعجب ما هو التطور في ذلك إذن؟
لقد اختزلنا فعلاً مفهوم التطور في معان بليدة متخلفة، وهذه مصيبتنا.
فتجد متخلفًا لا يفهم معنى التطور ينعق: التحضر والمدنية أن تتعرى المرأة، وأن لا تكون ربة بيت، وأن تفتح بارات ونسويات، وأن يترك الدين، وهذا بيت القصيد.
لقد جعلوا من الدين مشكلة، ومنزله سبحانه افتتح الرسالة بثنائية المعرفة: القراءة والقلم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
أول آيات أنزلت لتقول للعالم إن هذه الأمة ستقود العالم بالمعرفة.
فعلاً إنهم يستوردون لنا تالف الثقافة وما خرج عن الجاهزية ويقبضون مقابل ذلك، كما تستورد أنظمتنا تالف الأسلحة ومتخلفها ويقبضون على ذلك.
أ.د. فضل مراد
أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر