Dr.Fadil

الوظيفة العامة

أ.د فضل مراد

0

 

الوظيفة العامة:

والوظيفة العامة في تعريفنا: هي حق لمواطن كفء مؤهل عدل عند الاحتياج، بالتعاقد الدائم أو المؤقت، بعوض معين، مقابل عمل معين في المال العام.

فقولنا «هي حق»: لأن الوظيفة العامة هي في الملك العام، ولكل شخص من الأمة ملك مشاع في المال العام بالتساوي الكلي بين عموم الشعب.

ولما أن كان له حق في الملك العام فله حق في إدارة حقه.

ولما كان حقه مشاعا بين الشعب تعين اتفاق الشعب على كيفية عادلة في التوزيع لذلك الحق وإدارته.

والوظيفة العامة هي نوع من هذا التوافق بشروط خاصة لكل ولاية بما يخدم المصالح العامة تقوم به الدولة نيابة عن الأمة.

ولأن الولاية على المال لا تكون إلا بتملك أو إذن من المالك، والمالك هو الشعب، فأفراده لهم الحق في إدارة ملكهم بشروطه.

ولأن من ملك حقَّ له الولاية على ملكه؛ والوظيفة العامة نوع ولاية مشروطة.

وقولنا «لكفء» إلى آخر ما تقدم في التعريف سيأتي بيانه.

وقولنا «بالتعاقد الدائم أو المؤقت»: هذان نوعان جرى العرف الوظيفي العام عليهما.

وقولنا «عند الاحتياج»: خرج به عند عدمه؛ لأنه ليس من المصلحة العامة ولا النظر المصلحي للمال العام التوظيف بلا احتياج، فاقتصر الحق على الحاجة المعتبرة.

ولا ينفي هذا استحقاقه من المال العام وثروة الدولة من غير الوظيفة العامة؛ إذ المال العام حق عام لكل فرد في الشعب، وما الحاكم سوى وكيل والشعب أصيل.

وقد حققنا في اجتهادنا أن ثروات الدولة الباطنة والظاهرة، الجوية والبحرية والبرية تصرف مصرف الفيء لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وكل فرد في الأمة بدلالة النصوص في ذلك، وقد بسطناه في محله.

فمن حق كل مواطن في الدولة مؤهل بشروطه حسب الاحتياج أن يتوظف في مال الدولة في الأصل؛ لأن له ملك شائع فيه، ولا تأثير للحدود السياسية المحدثة الآن بين دول المسلمين في هذا الحق؛ لأنها ليست مانعا يعتبره الشرع في منع الحق المفروض شرعا من المال العام في الدولة المسلمة ككل.

وإنما تؤثر التقاسيم الجغرافية والحدودية في تقديم الأقرب فالأقرب من موضع سبب الحق، ولهذا يقدم ذي القربى الفقير والجار الفقير في الزكاة على الفقير الأبعد؛ إذ فيه خدمة للمقصد السادس الضروري للشريعة في اجتهادنا وهو حفظ الجماعة العامة؛ إذ صرف الحقوق عن مستحقها الأقرب إلى الأبعد يورث الضغينة والبغضاء ويؤثر في تفكيك المجتمع.

وما أثر في تفكيك المجتمع الأخص أثر في الجماعة العامة، وهذه مفسدة، والمفاسد واجبة الدفع.

فيجوز تقديم أهل البلد الجغرافي في التوظيف على غيرهم من المواطنين في دول الإسلام الأخرى، ولكن لا يجوز اختصاص أهل البلد بالثروات أو إدارتها بالوظيفة التعاقدية ومنع غيرهم من مواطني دول الإسلام أو تعذره أو تعسيره؛ لأن التعذر والتعسير كالمنع؛ لأدائه إلى ما يؤدي إليه. وسائر الثروات الأربعة عشر في الدولة حق مشترك لعموم الشعب.

وإن كان أهل البلد أخص في التقديم لا في الاستئثار والمنع لغيرهم من مواطني دول الإسلام.

والوظيفة إما عامة في مرافق الدولة، أو خاصة في غيرها من المؤسسات والجهات: أهلية شخصية، أو أهلية اعتبارية كشركة.

والوظيفة إجارة، وهي قائمة على الأمانة التامة في أداء ما استوجبه العقد لفظا أو عرفا موافقا للشرع، أو كلاهما، سواء كان العقد مكتوباً أو ملفوظاً.

وإذا أعلنت الدولة عن وظائف وجب عليها شرط الكفء، وهو القوي الأمين لعموم «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا» (النساء:58).

والأمر للوجوب وأهل الأمانة هنا هو القوي الأمين «إن خير من استأجرت القوي الأمين» (القصص:26)، «قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» (يوسف:55).

والقوة في العمل بحسبه، والمؤهل بشهادات ونحوها هو القوي في بابه.

وتعرف الأمانة بالتزكية من جهة موثوقة. وهي غير الوساطة المذمومة؛ لأنها -أي التزكية- نوع شهادة، وهي إخبار مطلوب لأجنبي عن أجنبي بما فيه، أو نقول هي إخبار عن أجنبي بما فيه على وجه الشهادة المطلقة بأمر متعلق بالعمل لجهة تطلبه.

وقولنا «نوع شهادة»، «الشهادة المطلقة» للاحتراز عن الشهادة القضائية ويحرم الكتمان لأنها نوع من الشهادة في لسان الشرع.

والشهادة واجبة الأداء عند الطلب ويحرم كتمها «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم» (البقرة:283)، ولأن كتمان قول الحق مع الحاجة إليه محرم؛ لعموم الوعيد «وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون» (البقرة:146).

بخلاف الوساطة المذمومة، فهي تعاون على الإثم والعدوان من جهة تقديم من لا يستحق على أهل الاستحقاق، وهذا منكر.

ولا مانع مع توفر الكفاءة من تقديم من ثبت يقينا فاقته وحاجته على غيره ممن هو أحسن حالا منه؛ لأن الجمع بين مصلحتين في الشرع أولى من مصلحة واحدة، وقد جمع له هنا المصلحتان: العامة كونه كفؤا مؤهلا، والخاصة كونه ذا حاجة.

وثبوت ذلك بحكم حاكم أو شهادة عدول كما جاء في النص «ثلاثة من ذي الحجا».

أو بالاستفاضة والشهرة الصادقة من جيرانه وصحابته.

لأن ظن الغنى المخالف للواقع إنما يكون من جاهل لا علم له بالحال؛ لأجل التعفف الحاصل من الشخص كما في الآية «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا» (البقرة:273) بخلاف من كان مصاحبا له أو جاراً، فلا يجهلون حاله ولا يغترون بتعففه غالباً.

وإنما جعل شرط القوة والأمانة من الخير لا من الواجب في الظاهر من قوله تعالى «إن خير من استأجرت القوي الأمين» (القصص:26)؛ لأن للفرد في حقه العفو عن بعض الشروط للأجير، إحسانا إليه، وتيسيرا؛ لكن لا يجوز هذا فيما هو من وظائف الدولة، أو الأهلية العامة كشركات ومؤسسات؛ لأنها أمانة والفرض أداؤها إلى أهلها، وإلا ضيع الأمانة.

فإن كان الموظف سفيها حَرُمَ توليته ولو في ملك خاص لفرد؛ للنص في ذلك «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا» (النساء:5).

 

أ.د. فضل مراد

أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.