من أراد بلوغ الغاية في النّظر فعليه الصمود إلى النصوص لتحرير أبواب العلم، قبل معرفة مذاهب القوم، فوالله ما فعل ذلك أحد معتبر مؤهل إلا ألآن الله له الفقه كما ألان لداوود الحديد، ومن هجر النّصوص إلى الأقوال لا تنفكّ نفسه مناخة في أعطان المشقات ومراجعة المحفوظات، وضبط المتون وملاحقة شروحها، والفرح بعسر حواشيها على غير فهم.
فوالله ما تخرّج بتلك المنهجية سوى الأئمة الكبار، وما تخرّج بالأخرى فقيه إلا على المجاز، وانظر إلى نص الفقهاء أنفسهم في باب الوقف، فيمن قال وقفت على الفقهاء دخل فقهاء اليوم عرفًا؛ لأن إطلاق الفقه عليهم مجاز لا حقيقة، بل تقرر عندي بالتجربة أن بعض أهل الحواشي لم يفهم ما يريد هو دلّ على ذلك أنه نقل عن ناقل عن ناقل عن آخر ولا تكاد تجد اختلافاً في العبارة سوى إضاءات طفيفة مع انقفال القول وعسره.
فإن أردت بلوغ الثريا في الإمامة فاعلم أنها منزلة يهبها الله من يصطفيه من خلقه ويفتح له أسباب ذلك، فلا تلتفت إلى من ادّعى غلق باب الاجتهاد كأنّه باب ديوانه الخاص أو مجلسه، فإن باب الاجتهاد من فضل الله ولا يمسك أحد فضله ولا يغلقه.
فعند تحرير المسألة عليك أن تتجه إلى النصوص أولاً للتأمل فيها وتحليلها، وأوّل عمل هو معرفة ما يتعلق بالباب من “أصول كلية عامّة ووسطى وجزئية” فهذه ثلاثة أقسام لعلي أشرحها في مقال مستقل، وعليك بالأسئلة الخمسة في تحرير المسائل التي ذكرتها في قراءة سابقة (3)
وسأضرب لك مثلاً تطبيقيّاً على هذا
من الأموال وهي “الزكاة” فإن كتاب الزكاة منتشر جداً وفيه من الفروع المتقدمة والمعاصرة ما يلوذ العاكفون على التقليد فراراً منه إلى متن أو نظم .. وهو من أسهل الأبواب، فإنه باب محصور في خمسة أسئلة (وهي غير الأسئلة الخمسة التي يقوم عليها الاستنباط فتنبّه)
ممّن تؤخذ؟
من ماذا؟
كم ؟
متى ؟
لمن ؟
وهذه الأسئلة الخمسة لا تختلف في كل فرع متقدم أو معاصر، فإنّك إن عملت بما تقدم من جمع الأصول الكلية التي ترجع إليه المسائل في الزكاة أجبت على هذه الأسئلة وفرّعت عليها، وقد تتبعتُ أصول الزكاة فوجدتها راجعة إلى:
• الأدلة الكليّة المجملة وهي التي تفيد الفرضية نحو: “وآتوا الزكاة” وهي مع الصلاة في القرآن في أكثر من ثلاثين موضعاً.
• أدلة كليّة وسطى تضبط باب الزكاة كله وهي في آية (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..)[التوبة: 103] وآية (طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.. )[البقرة: 267]
• وإلى أدلة جزئيّة وهي آية (وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام:141] وحديث أنس الطويل في الزكاة، وحديث: (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) وحديث:(فيما سقت السماء..) وحديث:(ليس فيما دون خمس أوسق ولا أواق صدقة) وحديث: (إياك وكرائم أموالهم..) .. فهذه الأصول ترجع إليها مسائل الزكاة وانظر فقط إلى آية (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..)[التوبة: 103]
تجد أنه يبنى عليها جواب سؤال ممّن تؤخذ؟؛ لأنها نصت على أن الزكاة تزكية، وتطهير، وأمر النبي بالصلاة عليهم وهذه لا تكون إلا من مسلم، وعليها تبنى مسألة الشركات المختلطة من مسلمين وغيرهم
وتجيب الآية على سؤال من ماذا تؤخذ؟
ففي قوله تعالى: (مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، عموم لا يبقي نوعاً من المال إلا شملته الزكاة كما تدل عليه الإضافة، وخص منها المال المتعلق بالحاجات الشخصية “كالبيت، والأثات، والسيارة ونحوها” بدليل آية أخرى وحديث فالآية: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)[البقرة: 219]
فهذه تضبط قانون الإنفاق والعفو ما كان غير الحاجات الأصلية، وحديث: (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) وكذلك السنة الفعليّة التي تركت الأخذ من الأموال الشخصيّة التي تقوم عليها الحاجات المعيشيّة من مركب وسلاح وكسوة ومنزل وغير ذلك، فهذا تخصيص،
وبقي كل مال فيه الزكاة، وما ذكر في القرآن من بعض الأموال أو في السنة فهو من ذكر أفراد العام وهي لا تخصص العام، وغلط في ذلك أفراد فظنوا أن ما ذكرته السنة من المال مخرج لغيرها وهو غلط في التأصيل، فإن أفراد ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- مشمولة بالعموم، إنما ذكرها بياناً لأنصبتها وأسنانهاومقاديرها،
ومن هنا أخطأ أناس فزعموا أن التجارات لم تنص عليها السنة مع أن عموم النص في القرآن كاف والبيان لبعض أفرادها لا يخصص التعميم، والنوازل المتعلقة بالزكاة اليوم راجعة إلى هذه الأصول فلا تجد فرعاً اليوم إلا وهو راجع إلى عموم آية: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) فمنها:-
– الأسهم.
– الحسابات الجارية.
– السندات والأورق التجارية.
– زكاة النفط والغاز والثروات الباطنية في المال العام للدولة.
– زكاة أموال الشركات والصناديق الاستثمارية.
– زكاة الراتب الأصلي والتقاعدي.
– الحقوق المعنوية.
– أخذها من الشركات المحرمة أو المال الحرام وبيان أن عموم «خذ من أموالهم» عام يشملها، وأنه مخصص أو مقيد بقوله تعالى :(من طيبات ما كسبتم).
– السلم المعاصر، والاستصناع، وبعض مسائل الاستثمار المعاصر.
– الأمور التجارية المواد الخام، المواد التصنيعية المخزون، المواد الخام، المواد المساعدة، المواد المشغلة، قطع غيار المستغلات، الاعتمادات المستندية.
– وكذا تأثير الديون الاستثمارية على الزكاة، فعموم قوله تعالى «خذ من أموالهم» بلا تفصيل وبعثه السعاة بلا تفصيل؛ يدل على عدم الالتفات إلى وجود دين، بل تؤخذ الزكاة من المال الزكوي الموجود البالغ نصاباً وحال عليه الحول، إلا أنّه يخص قسط الدين الحال، والدليل من النص أن القسط الحال ليس من ملكه ولا يشمله عموم «أموالهم» فهذه أعيان الأموال في زمننا وروؤسها فمن لا يزال يتمسك بألا زكاة في التجارة فما أجمده من عقل مثقل في رأسه وفي الأية: (من أموالهم ) بيان الملك التام؛ لأن الإضافة هنا للملك، فما ليس بملك لا زكاة فيه كالمال العام، فإنه ملك عام كله لا جزء زكوي منه، بل كله للشعب، ومنها الثروات الباطنة من نفظ وغاز ومعادن وغيرها فكلها للشعب، فعلى من يزكي الشعب ولمن ..؟!
فإن تعيّن مالكه وهو عام كمالك محصور لوقف أمكن القول بالزكاة فيه لقوة الملك.
أمّا الجواب على سؤال متى تؤخذ؟
فجوابها تجده في القرآن والسنة القوليّة والعمليّة أما في القرآن فلنوع واحد هو الزرع والثمار (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
أما السنن فلم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- يبعث السعاة إلا على رأس الحول، وهو القمري لا الشمسي، وتحقيقه راجع إلى “الكتاب والسنة” كذلك في غير هذا المقام؛ لأن مقصودنا الدلالة على طريق التأصيل.
وأما جواب كم تؤخذ؟
فجوابه في حديث أنس وغيره في البخاري ومسلم، أما لمن تصرف فجوابه في آية واحدة هي المصارف الثمانية وبالاستقراء فإن أموال الزكاة أربعة تتركب عليها جميع الفروع:
1- الذهب والفضة سواء كانت نقدًا أو غير نقد، وما قام مقامها في عصرنا من العملة بالقياس الصحيح.
2- الأنعام.
3- الثمار والزروع .
4- التجارات؛ لأنها فرع النقود وإليها تعود، ولعموم «خذ من أموالهم» وهذا خير المال فعلى هذا تدور أصول أموال الزكاة، وعليها بنيت القوائم المالية في عصرنا فشد على هذه الطريقة التأصيلية يديك، فعليها قوام الفقه وحياة العلم؛ لأنك تنطلق بها من النص إلى الواقع لتأسيس منتوج تنزيلي ملائم للواقع والمتوقع، واهجر طرق التقليد التي تنطلق بها من المنتوج إلى الواقع فإنك تحتار وتنسى وتضطرب، وشرط سلوك هذه الطريقة من بلغ مرتبة من العلم والنظر ووسع الله له في اللغة مرتبة وسطى، والأصول تحقيقاً لا تقليدًا وعرف الحديث وعلومه، والمقاصد فعلاً وتنزيلاً لا مجرد أقاويل وتقاسيم تكتض بها الأوراق وترهق بها الأفكار.
فمن لم يبلغ ذلك فليجتهد في الطلب حتى يبلغ، فإن أراد ذلك بالقفز كطوائف المهرطقين الذين يلهمون النظر إلهاماً ويعتمدون أنفسهم حججاً على الناس بلا طلب ولا تعب سوى قراءات سموها فكرية في كتب الشحارير وكتب الضلال من المستشرقين والمتغربين، فإن أكثر من يفعل ذلك أو كثير منهم أو كلهم يقال فيه ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ابن صياد: (اخسأ فلن تعدو قدرك).[البخاري]
أ. د. فصل مراد