الشوكاني يرسم طريق الاجتهاد …
البدر الطالع
وهو مقال عظيم وفريد في بابه
……
وإني لأكثر التعجب: من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بعده كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفى في فهم الكتاب والسنة بعضه فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهما لما يسمعه منها صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه
ومن صار كذلك وجب عليه التمسك بما جاء به رسول الله وآله وسلم وترك التعويل على محض الآراء
فكيف بمن: وقف على دقائق اللغة وجلايلها افرادا وتركيبا وإعرابا وبناء وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه من لسان العرب خافية ولا يشذ عنه منها شاذة ولا فاذة وصار عارفا بما صح عن رسول الله وآله وسلم في تفسير كتاب الله وما صح عن علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمنه
وأتعب نفسه في سماع دوادين السنة التي صنفتها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده
فمن كان بهذه المثابة كيف يسوغ له: أن يعدل عن آية صريحة أو حديث صحيح إلى رأى رآه احد المجتهدين حتى كأنه أحد العوام الأعتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسما.
فيالله العجب إذا كانت نهاية العالم كبدايته وآخر أمره كأوله
فقل لي: أي فائدة لتضييع الأوقات في المعارف العلمية فإن قول إمامه الذي يقلده هو كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه
كما نشاهده في المقتصرين على علم الفقه فإنهم يفهمونه بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليهم منه شىء ويدرسون فيه ويفتون به وهم لا يعرفون سواه بل لا يميزون بين الفاعل والمفعول.
والذى أدين الله به: أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشىء من علم النحو والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التى جمعها الأئمة المعتبرون وعمل بها المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ولما هو حسن ولما هو ضعيف وجب العمل بما كان كذلك من السنة ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأى سواء كان قايله واحدا أو جماعة أو الجمهور
فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنة فكيف بما كان منها كذلك
بل الذى جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله: ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني) ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) إلى غير ذلك وصح عن رسول الله أنه قال: ( كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد)
فالحاصل: أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله ويرجح بها بين ما ورد مختلفا من تفسير السلف الصالح ويهتدي به إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح فهو مجتهد لا يحل له أن يقلد غيره كائنا من كان في مسألة من مسائل الدين
بل يستروي النصوص من أهل الرواية
ويتمرن في علم الدراية بأهل الدراية
ويقتصر من كل فن على مقدار الحاجة
والمقدار الكافي من تلك الفنون: هو ما يتصل به إلى الفهم والتمييز ولا شك أن التبحر في المعارف وتطويل الباع في أنواعها هو خير كله لاسيما الاستكثار من علم السنة وحفظ المتون ومعرفة أحوال رجال الإسناد والكشف عن كلام الأئمة في هذا الشأن فإن ذلك مما يوجب تفاوت المراتب بين المجتهدين لا انه يتوقف الاجتهاد عليه فإن قلت: ربما يقف على هذا الكلام من هو متهيء لطلب العلم فلا يدرى بما ذاك يشتغل ولا يعرف ما هو الذي إذا اقتصر عليه في كل فن بلغ إلى رتبة الاجتهاد والذي يجب عليه عنده العمل بالكتاب والسنة.
قلت: لا يخفى عليك إن القرايح مختلفة والفطن متفاوته والأفهام متباينة فمن الناس من يرتفع بالقليل إلى رتبة علية ومن الناس من لا يرتفع من حضيض التقصير بالكثير وهذا معلوم بالوجدان ولكنى ههنا اذكر ما يكفى به من كان متوسطا بين الغايتين فأقول:
يكفيه من علم مفردات اللغة: مثل القاموس وليس المراد إحاطته به حفظا بل المراد الممارسة لمثل هذا الكتاب أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى وجدان ما يطلبه منه عند الحاجة.
ويكفيه في النحو: مثل الكافية لابن الحاجب والألفية وشرح مختصر من شروحها وفي الصرف مثل الشافية وشرح من شروحها المختصرة
مع ان فيها: مالا تدعو إليه حاجة
وفي أصول الفقه : مثل جمع الجوامع والتنقيح لابن صدر الشريعة والمنار للنسفي أو مختصر المنتهى لابن الحاجب أو غاية السول لابن الإمام وشرح من شروح هذه المختصرات المذكورة
مع أن فيها جميعها: مالا تدعو إليه حاجة
بل غالبها كذلك: ولاسيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها فإنها عن علم الكتاب والسنة بمعزل
ولكنه جاء في المتأخرين: من اشتغل بعلوم أخرى خارجة عن العلوم الشرعية ثم استعملها في العلوم الشرعية
فجاء من بعده فظن انها من علوم الشريعة
فبعدت عليه المسافة
وطالت عليه الطرق
فربما بات دون المنزل
ولم يبلغ إلى مقصده
فإن وصل بذهن كليل
وفهم عليل
لأنه قد استفرغ قوته في مقدماته
وهذا مشاهد معلوم
فإن غالب طلبة علوم الاجتهاد” تنقضي أعمارهم في تحقيق الآلات وتدقيقها ومنهم من لا يفتح كتابا من كتب السنة ولا سفرا من أسفار التفسير
فحال هذا: كحال من حصل الكاغد والحبر وبرى أقلامه ولاك دواته ولم يكتب حرفا فلم يفعل المقصود إذ لا ريب أن المقصود من هذه الآلات هو الكتابة كذلك حال من قبله
ومن عرف ما ذكرناه سابقا لم يحتج إلى قراءة كتب التفسير على الشيوخ لأنه قد حصل ما يفهم به الكتاب العزيز
وإذا أشكل عليه شىء من مفردات القرآن رجع إلى ما قدمنا من أنه يكفيه من علم اللغة
وإذا أشكل عليه إعراب فعنده من علم النحو مايكفيه
وكذلك إذا كان الإشكال يرجع إلى علم الصرف وإذا وجد اختلافا في تفاسير السلف التى يقف عليها مطالعة فالقرآن عربي والمرجع لغة العرب فما كان أقرب إليها فهو أحق مما كان أبعد وما كان من تفاسير الرسول فهو مع كونه شيئا يسيرا موجود في كتب السنة
ثم هذا المقدار الذي قدمنا : يكفى في معرفة معاني متون الحديث
وأما ما يكفيه في معرفة كون الحديث صحيحا أو غير صحيح: فقد قدمنا الإشارة إلى ذلك ونزيده إيضاحا فنقول:
إذا قال إمام من أئمة الحديث المشهورين بالحفظ والعدالة وحسن المعرفة أنه لم يذكر في كتابه الا ما كان صحيحا وكان ممن مارس هذا الشأن ممارسة كلية كصاحبي الصحيحين وبعدهما صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة ونحوهما فهذا القول مسوغ للعمل بما وجد في تلك الكتب وموجب لتقديمه على التقليد
وليس هذا من التقليد لأنه عمل برواية الثقة والتقليد عمل برأيه
وهذا الفرق أوضح من الشمس
وإن التبس على كثير من الناس
وأما ما يدندن حوله أرباب علم المعاني والبيان : من اشتراط ذلك وعدم الوقوف على حقيقة معاني الكتاب والسنة بدونه فأقول ليس الأمر كما قالوا:
لأن ما تمس الحاجة إليه في معرفة الأحكام الشرعية قد أغنى عنه ما قدمنا ذكره من اللغة والنحو الصرف والأصول والزايد عليه وإن كان من دقايق العربية وأسرارها ومماله مزيد تأثير في معرفة بلاغة الكتاب العزيز لكن ذلك أمر وراء مانحن بصدده
وربما يقول قايل: بأن هذه المقالة مقالة من لم يعرف ذلك الفن حق معرفته
وليس الأمر كما يقول:
فإنى قد شغلت برهة من العمر في هذا الفن فمنه ما قعدت فيه بين أيدى الشيوخ كشرح التلخيص المختصر وحواشيه وشرحه المطول وحواشيه وشرحه الأطول ومنه ما طالعته مطالعة متعقب وهو ماعدا ما قدمت
ه وقد كنت أظن في مباديء طلب هذا الفن ما يظنه هذا القائل
ثم قلت ما قلت: عن خبرة وممارسة وتجريب
والزمخشري وأمثاله وإن رغبوا في هذا الفن فذلك من حيث كون له مدخلا في معرفة البلاغة كما قدمنا
وهذا الجواب الذى ذكرته ههنا هو الجواب عن المعترض في سائر ما أهملته مما يظن أنه معتبر في الاجتهاد ومع ذلك كله فلسنا ألا بصدد بيان القدر الذي يجب عنده العمل بالكتاب والسنة وإلا فنحن ممن يرغب الطلبة في الاستكثارمن المعارف العلمية على اختلاف أنواعها كما تقدمت الإشارة إلى ذلك
ومن رام الوقوف على ما يحتاج إليه طالب العلم من العلوم على التفصيل والتحقيق فليرجع إلى الكتاب الذي جمعته في هذا وسميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فهو كتاب لا يستغنى عنه طالب الحق
على أني أقول بعد هذا: أن من كان عاطلا عن العلوم الواجب عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التى تجب عليه من عبادة أو معاملة وسائر ما يحدث له فيقول لمن يسأله علمني أصح ما ثبت في ذلك من الأدلة حتى أعمل به
وليس هذا من التقليد في شيء
لأنه لم يسأله عن رأيه بل عن روايته
ولكنه لما كان لجهله لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة
وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك فهو عامل بالكتاب والسنة بواسطة المسؤل ومن أحرز ما قدمنا من العلوم عمل بها بلا واسطة في التفهيم
وهذا يقال له مجتهد
والعامي المعتمد على السؤال ليس بمقلد ولا مجتهد
بل عامل بدليل بواسطة مجتهد يفهمه معانيه
وقد كان غالب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم خير القرون من هذه الطبقة
ولا ريب أن العلماء بالنسبة إلى غير العلماء أقل قليل
فمن قال: انه لا واسطة بين المقلد والمجتهد
قلنا له : قد كان غالب السلف الصالح ليسوا بمقلدين ولا مجتهدين
أما كونهم ليسوا بمقلدين: فلأنه لم يسمع عن أحد من مقصري الصحابة أنه قلد عالما من علماء الصحابة المشاهير بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علمائهم نصوص الأدلة ويعملون بها وكذلك من بعدهم من التابعين وتابعيهم
ومن قال: ان جميع الصحابة مجتهدون وجميع التابعين وتابعيهم فقد أعظم الفرية وجاء بما لا يقبله عارفوهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبول قول الغير دون حجة لم تحدث إلا بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
( وخير الأمور السالفات على الهدى *** وشر الأمور المحدثات البدائع )
وإذا لم يسع غير العالم في عصور الخلف ما وسعه في عصور السلف فلا وسع الله عليه وهذا عارض من القول اقتضاه ما قدمناه ”
انتهى.
د.أ فضل مراد