نظرة في علم البلاغة وحاجة الفقيه المجتهد والمقاصدي له.
لقد أدمنتُ سنين طويلة النظر في علوم البلاغة قديمها تأسيسا ومتقدمها ومتأخرها ومنظومها ومعاصرها وتأملت في حاجة الفقيه له….
حينما تبحث مسألة تحتاج أن تنظر في:
1_ معنى اللفظة من حيث هي مجردة وهذا في علم مفردات اللغة وقواميسها.
2_ وتحتاج أن تنظر تركيبة اللفظة فتحتاج لعلم المعاني لتعرف هل هو خبر أم إنشاء.
3_ وحينما يكون خبرا فإن الخبر في كتاب الله وسنة رسوله صدق كله لا يحتمل غيره وهذه قضية مفروغ منها ويبقى لك.
_ أن تعرف أن دلالته التركيبية لها مقاصد ومعان.
ومن هنا فعلم مقاصد الكلام ومعانيه أصله مبنى على علم المعاني وهو أحد ثلاثة علوم في البلاغة فقول الله تعالى … محمد رسول الله
مسند ومسند إليه فالمسند إليه أو المحكوم عليه في الجملة من هو … هنا المسند إليه هو المبتدأ والمبتدأ والفاعل ونائبه يكون الحكم مسندا إليه ثم عليك أن تنظر هل الجملة إسمية أم فعليه فإن كانت اسمية فهي تدل على الثبات فمحمد رسول الله أمر ثابت متحقق متيقن وخبر صدق متعلق به التكليف وإن كانت فعليه أفادت الحدوث لكن بالسياق تفيدان التجدد والحدوث كما في قوله تعالى : “إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ”
وقوله تعالى:” لا يسمعون فيها لغوا” ..
فهما جملتان إسميه وفعليه الأولى أصلها على الثبوت والثانية على الحدوث لكن التجدد مستفاد من سياق المدح والذم فعلم أن دلالة السياق ضرورية لفهم معنى الكلام ومقصدود ثم إن أردت أن تكلم أحدا غير عالم سمي فائدة وإن أردت أن تعلمه وهو عالم فهو لازم الفائدة فهو أوكد من السابق لأنه ليس لمجرد إفادة من لا يعلم بل لتوكيد ذلك في ذهن الغير حتى تترسخ وتثبت وإن كان لا يعلم أتيت له بالخبر مجردا فقوله تعالى … محمد رسول الله وإن كان مترددا متشككا أدخلت عليه مؤكدا وإن كان منكرا زدت في ذلك وقد تنزل المنكر منزلة المسلم لوضوح القضية وكثرة شواهدها “وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ”.
وهكذا المؤكدات لها مقاصد في الكلام وهي كثيرة ومقاصدها هامة جدا ولا بد أن يستفيد منها الفقيه في بيان مراتب التكليف والموازنة عند التعارض فانظر إلى قوله تعالى “أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ف”ألا” تفيد التحقق والاستفتاح والتنبيه والتأكيد ومقاصد الخبر كثيرة إضافة لما سبق فقد يفيد من سياقه التعجب والتحسر والمدح والذم ويفيد الأمر مثل يتربصن
والنهي مثل” لا يمسه إلا المطهرون”
وقد يفيد معنى الاشتراط
الطَّلاقُ مَرَّتانِ، أي من طلق مرتين فله فيهما الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان فلا مجال للإمساك في الثالثة وإما الانشاء فهو أمر ونهي والاستفهام والتمني والندا والعرض والتحضيض وكذا غير الطلبي مثل ألفاظ المدح والذم مثل وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ
ويأتي هنا التعجب والتفضيل والرجاء
وصيغ العقود بعت واشتريت
والفرق بين الطلبي وغير الطلبي أن الأول يفيد تأخر معناه عن لفظة
أما غير الطلب فهو يفيد التزامن مثل بعت واشتريت فحين توجد اللفظة يتم العقد بمجرد انتهائها بخلاف “ولا تقربوا الزنا” فإنه يتضمن مطلوبا بعد تمام النهى.
والاستفهام لها معان والهمزة لها معنيان وهل لها معنى وبقيتها تفيد التصور فقط .
ثم الاستفهام له زهاء 20 معنى يعلم من خلال السياق فمثل “هل جزاء الاحسان إلا الاحسان”
استفهام مقصوده الأمر بمجازاة الإحسان بالإحسان وليس المقصود الاستفهام وانظر إلى قوله تعالى” أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه”فهو نهي مشدد عن خشية المشركين فهم من استعمال الاستفهام الإنكاري فصارت خشيتهم منكرا.
وهذا كله في المفرد أما الجملة فبمعرفتها كذلك يعرف مقاصد الكلام والتكليف وهي مسند ومسند إليها وكل له أحكام في الحذف والذكر والتقديم والـتأخير فقد يفيد الحذف عموم المتعلق وهذا هام في النظر الاستدلالي ويبحث هنا عن الفصل والوصل ولماذا وصل فمن مقاصد فصل الجمل إفادة تعلق الثانية بالاولى تعليلا أو بيانا مثل “يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ”
ثم بين ماهو سوء العذاب
“يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ”
وهذا من البيان المفيد في استنباط الأحكام وكذلك من مباحث الجملة الايجاز والإطناب والمساوة
فالأول كلمات يسيرة بمعان كثيرة مثل قوله تعالى ” وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ”
فهذه الجملة فيها معان كثيرة جدا وهامة في الاستنباط
وقوله تعالى : “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ”
فجمع في الآية أحكاما كثيرة
أما الإطناب فمقصوده زيادة الإيضاح أو التخصيص كذكر عام بعد خاص أو خاص بعد عام أو الاعتراض الذي يفيد مقصودا
مثل” وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا- وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ” فاعتراض بقوله” وَلَنْ تَفْعَلُوا”
فاعترض بلن تفعلوا ليبين استحالة معارضة القرآن بمثله ومن الاطناب التذيل ومنه أنواعه أن تأتي جملة يستفيد منها الفقيه كلية تعليلية
مثل ذلِكَ” جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ”؟
أو كلية قاعدية أو مقاصدية أو سننية .
أما القسم الثالث من أقسام الجملة فالمساواة وهي تفيد مساواة ألفاظها لمعانيها فلا يمكن أن تزيد لفظا أو تنقص لأنه يخل بالمعنى
“إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”
وهذا تأتي في كليات الشريعة لزيادة البيان والإيضاح.
فالكليات بينة واضحة
مثل “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”.
فعلم المعاني يجب أن يستثمره الفقيه في استنباط مقاصد الكلام وما ينبني عليه من أحكام.
وأما علم البيان فهو كاسمه يفيد شدة البيان والإيضاح فالحقيقة والمجاز والاستعارات مقصدوها إيضاح الكلام بصورة أجلى وأبين والكنايات لها مقاصد وتبنى عليها الأحكام وانظر إلى قول عمر لما دخل عثمان متأخرا
وكان عمر بن الخطاب يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل؟ فقوله: «أية ساعة هذا؟» يفيد الإنكار عن التأخير بالكناية.
وأما علم البديع فهو محسنات الكلام المعنوية واللفظية ولها مقاصد تحسينية وتقييدة مع كونها تحسينية مثل التتميم فهو كلمة لو حذفت اختل المعنى مثل قوله تعالى” مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً”
فقيد من ذكر أو أنثى وقيد وهو مؤمن يعتبر من علم البديع وهو تتميم لكنه هنا لابد منه ومن هذا العلم يفهم الالتفات واللف والنشر والمقابلة وغيرها وانظر إلى توكيد المدح بما يشبه الذم في قوله تعالى ” لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً” .
فإن الاستثناء ليس على وجهه بل المقصود تأكيد الجملة السابقة
وانظر إلى كقول النابغة الذبياني:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب
فأراد تأكيد نفي العيب عنهم ببرهان استثنائي ليس مقصوده الاستثناء بل شدة إيضاح ما يريد وتأمل قوله تعالى: “وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا” فكيف أكد درجة نقمتهم ببيان ماذا ينقمون وهو الإيمان بالله الذي هو أصل المفاخر فهذا بيان قبح نقمتهم وصنيعهم فليس المقصود الاستثناء بل بيان شدة قبح وإجرام صنيعهم، والحاصل أن علم البلاغة هو علم مقاصد الكلام فعيب أن يتكلم العالم الفقيه والمفسر الذي يروم استنباط الاحكام وهو لا يدري عن هذا العلم أو لم يتضلع فيه وما علم الدلالات إلا جزء من هذا العلم ويبين قصور علم الأصوليين في علم الدلالات لأنهم أغفلوا دلالة السياق والمقصود والمقاصد في هذا القسم مع أنه لازم له كما أنهم اختصوا بأمور هي من البلاغة لكنها ألص بالاستنباط
واختصوا بالقياس والتعارض وبيان كيفية استثمار الأحكام ومراتب الأدلة
لكن علم البلاغة لم يستثمر حق الاستثمار في استنباط مقاصد النصوص ودلالات النصوص ومقاصدها.
#فضل_مراد