Dr.Fadil

جواز جمعية الموظفين والاستدلال على ذلك وتحقيق المقام  

أ.د فضل مراد

0

جواز جمعية الموظفين والاستدلال على ذلك وتحقيق المقام

أ.د. فضل عبد الله مراد

سُئلتُ مرارًا عن حكم ما يصنعه الموظفون من دفع مبلغ كل شهر لواحد منهم، فهل هذا يجوز؟ وقد أفتيت بالجواز، وذكرتُ المسألة في المقدمة في فقه العصر في الفقه الوظيفي قبل سنوات.

وهنا أزيد المقام تأصيلًا وتنزيلًا، فأقول، وبالله التوفيق:

حديث «أيما قرض جر نفعًا فهو ربا» لا يجوز الاستدلال به؛ لأنه ساقط واهٍ بإجماع أهل الحديث المعتبرين، كما حققته في حواشي المقدمة، وهي قاعدة فقهيّة لا تصح على إطلاقها، ويعمل بها المالكية كثيرًا، والمالكية توسعوا في باب الربويات وتوليد الذرائع الربوية..

ولهم نظام صناعي في الفقه المالي بديع، والمدرسة المالكية فيها أعلام من المجتهدين، وهذا من مميزاتها، فتلاميذ مالك لهم رأيهم المستقل المبني على الاجتهاد، وهكذا في الطبقات التي تليها إلى أن فشا التقليد والجمود في عموم المدارس الفقهية.

وأقول صراحةً: إني في المستجدات، بعد استقصاء كلام الصحابة ومن بعدهم إلى الأئمة الخمسة، أتجه إلى تلاميذ الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والطبقة التي تليهم، فأجد لهم فقهًا اجتهاديًا مستقلًا، وكم أفدت من فقهاء المالكية من تلاميذ مالك ومن يليهم من الكبار.

لكن القاعدة المجمع عليها هي بشرط الزيادة لفظًا أو عرفًا، قال ابن قدامة:

«وكل ‌قرض ‌شُرط فيه أن يزيده، فهو حرام، بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المُسلِف إذا شَرَط على المُستَسلِف زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا».

*مسألة جمعية الموظفين*

ومن النوازل المعاصرة المتعلقة بهذا الحديث مسألة جمعية الموظفين، وهي أن يشترك عدد من الموظفين في استقطاع جزء من راتبهم كل شهر، ويكون لواحد منهم، إلى أن ينتهي الدور على الجميع.

وكنتُ قد أفتيت فيها بالجواز قبل سنين، كما قدمنا، وحررت ذلك في المقدمة، ثم وُسِّلت بفيديو يمنع ذلك لبعض أهل العلم الأعلام، وقد بيَّنت أن المالكية يشددون في هذا، وللمذهب المالكي تشديد في باب الذرائع الربوية خلافًا للجمهور.

*التخريج الشرعي لجمعية الموظفين*

للموظفين وغيرهم إنشاء جمعية شخصية يتعاونون من خلالها على الادخار بجمع جزء متساوٍ من رواتبهم، ويُسلَّم المبلغ كاملًا لأحد المشتركين معهم شهريًا حتى يدور ذلك على الكل.

وهو عقد إرفاق مشمول بعموم قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ (المائدة: 2).

وبعموم قوله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ (الرحمن: 60)، فالكل محسن ويُقابل بمثل إحسانه.

وتخريجه الشرعي أنه عقد قرض معيَّن من متعدِّدين معينين بأجل معين لكل فرد منهم بتاريخ مستقل، فهذا تعريفُ أوَّلِهم قبضًا.

أما آخرهم قبضًا، فهي له جباية قرض آجل معين من معينين في أجل واحد.

وأما ما بين الأول والآخر، فهو عقد قرض معين آجل أقرضه لآخرين واقترض من آخرين معينين، يقبضه منهم ويُقبضه في أجل معين لكل شخص.

ومن منعه بعلة أنه قرض جر نفعًا، فلم يُصب؛ لأن الحديث في ذلك ساقط ولا يصح كقاعدة فقهية كذلك.

*الرد على من منعها بعلة القرض الذي جر نفعًا*

وعلى فرض التسليم بالاحتجاج به أو بالقاعدة، فنقول بعدم صوابية ذلك؛ لأن عموم الحديث مخصوص قطعًا لجواز قبول الهدية بلا شرط، وهذا جر نفعًا.

ولأن صور التجارات بالدين جائزة في الأصل مع جرِّها نفعًا تجاريًا قطعيًا، ولهذا جاز السَّلَم، وهو يؤول إلى دين في ذمة المُسلَم إليه.

وكذلك من يُداين الناس في السلع التجارية بآجل مع زيادة ثمن، يفيد ويستفيد، وقد جر نفعًا، وهو مباح؛ لأن الأصل حلُّ التجارات.

*الفرق بين جمعية الموظفين وصورة “أسلِفني وأسْلِفك”*

قلتُ: ولا تدخل هذه الجمعية في صورة أسلِفني وأسْلِفك التي منعها البعض، والفارق أن أسلِفني وأسْلِفك صورته أن يشرط عليه أن يُسلِفه ألفًا، ثم يرده، وبعد أن يرده إليه يكون عليه أن يسلفه في المستقبل، فالسلف هنا كان زيادة على رد القرض.

أما جمعية الموظفين، فليس فيها إلا رد القرض، لا اشتراط إقراض بعد السداد.

وهذا هو ما نصَّ عليه ابن عمر رضي الله عنهما، كما رويناه بسندنا المتصل إلى الموطأ عن:

«‌مالك، عن ‌نافع؛ أنه سمع ‌عبد الله بن عمر يقول: ‌من ‌أسلف ‌سلفًا، ‌فلا يشترط إلا قضاءه».

*اشتراط الدخول في دورة ثانية*

ولو شُرِط في الجمعية أن ينتهوا منها ويدخلوا في دورة ثانية أو أكثر، فلا أرى مانعًا، وإن كان القول بشبهها بأسلفني أسلفك أقوى؛ لأن ما بُنِي عليه أسلفني وأسلفك هو ما سبق من الحديث الواهي.

كما أن حديث: «نهى عن سلف وبيع» فيه خلاف في صحته، لكن لو سُلِّم بصحته، فاشتراط البيع مع القرض يدخله الظلم غالبًا.

أما اشتراط الدخول في دورة جديدة، فأيُّ ظلم فيه؟ بل هو إقراض جديد وسداد جديد للجميع، فلا ظلم فيه على أحد.

القاعدة الفقهية:” أي أمر فيه منفعة بلا ضرر، فالشريعة لا تحرمه”.

ومن الموافقات أني وجدت ابن قدامة يستدل بنفس هذه القاعدة في نفس هذه المسألة، فقال، وهو يدلل على جواز أن يقرض شخصًا ويكتب له أن يستلمها من وكيله في بلد آخر (السَّفتجة):

«والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها».

*الفتاوى المعاصرة توافق ما قلنا.*

وبما قلنا وأفتينا من جواز جمعية الموظفين، أفتت:

هيئة كبار العلماء.

دار الإفتاء المصرية.

دار الإفتاء الأردنية.

وفي قرار هيئة كبار العلماء رقم 164 في تاريخ 26/2/1410 هـ:

«جرت مداولات ومناقشات، لم يظهر للمجلس بعدها، بالأكثرية، ما يمنع هذا النوع من التعامل؛ لأن المنفعة التي تحصل للمُقرِض لا تنقص المُقتَرِض شيئًا من ماله، وإنما يحصل المُقتَرِض على منفعة مساوية لها، ولأن فيه مصلحة لهم جميعًا من غير ضرر على واحد منهم، أو زيادة نفع لآخر. والشرع المطهَّر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد، بل ورد بمشروعيتها».

وكتبه:

أ.د. فضل عبد الله مراد

رئيس منصة الإفتاء اليمنية

وأمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد

أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة- قطر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.