Dr.Fadil

على مفترق الطرق… مع الله وملائكته

أ.د فضل مراد

0

على مفترق الطرق… مع الله وملائكته

أو بين الكلاب

رسالة عاجلة لعلماء الشريعة

كتبه:

أ.د. فضل عبد الله مراد

الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة – جامعة قطر

يقول سبحانه وتعالى:

(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)

استوقفني هذا النص الصريح وأنا أكتب في محددات التنزيل للفتاوى على الحياة المعاصرة، والتي تتبعتها فبلغت أحد عشر محددًا يجب على الفقيه الناظر في النوازل أن يلمّ بها، وأن يطبقها ويفعلها تفعيلًا صحيحًا في تنزيله للفتوى، بعد أن يكون قد مر بمرحلة الأسئلة التأصيليّة التنزيلية التي تشكل خارطة النظر الفقهي وتؤمن سلامته وأصوبيته.

وقد أودعت هذه المحددات وأفضت فيها في كتاب خارطة النظر الفقهي، المعد للتجهيز للطبع في ثلاثة مجلدات، مع بيان نوازل العصر لكل سؤال ومحدد ومرحلة، وأين يكمن الخلل، وماذا ينبغي أن يُصنع.

إن محددات التنزيل الإحدى عشرة، يأتي على رأسها:

أن يقصد العالم في النازلة التعبد الخالص لله ببيان ما يرضي الله؛ لأن غير ذلك، إضافةً إلى خطورته عليه، يمثل انتهاكًا لحق البشرية في بيان ما أنزل الله كما أنزل، وخيانةً جسيمةً لأمانة عظمى يتحمل العالم مسؤولية مآلاتها في تضليل العالم وتيهه، وإقعاد الأمة بهذا الكذب على الله عن دورها في حمل مشروع الإسلام النهضوي للعالم وإنقاذه من غياهب الظلمات.

وسأتحدث عن هذا بتفصيل في مقال قادم.

لكن دعوني الآن أقف مع هذا النص القرآني وفقهه بما فتح الله به من بيان، فأقول فيه من الفقه:

1. أن من قصد بالنظر والفتوى وتنزيلها التعبد الخالص لله ببيان ما يرضي الله في هذه النازلة، رفع الله درجته كما رفع لواء شرعه. وهذا هو المعنى المقصود في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

فليس رفع الدرجات لذات العلم، وإلا لرفع العالم الفاسق والمحرف لدين الله لما لديه من العلم، بل ذلك مختص بالعالم الرباني الرافع لواء الشريعة، فعامله الله بجنس عمله فرفع درجاته.

2. فيه عظيم قدر العالم العدل الصالح المصلح، حيث يتولى الله بنفسه رفعته.

3. فيه عظيم مقدار هذه الرفعة؛ لأن الذي رفع هو الله الكريم القادر على كل شيء، الذي بيده ملك كل شيء، وعنت له رقاب كل شيء، فماذا تتصور إذاً؟

فلا شك أن هذه الرفعة لدرجات العالم الرباني بما يليق به سبحانه وبأسمائه الكريمة وأفعاله الجميلة.

وقد كشف لنا لمحة من هذه المنزلة السامقة، حيث جعل العلماء الربانيين معه ومع ملائكته، إذ قال سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فما أعظمها من منزلة أن يؤهلك الله لتشهد معه ومع ملائكته على توحيده، ويجعلها حجة على الخلق! ما أعلاها من مكانة!

إن الفقهاء تكلموا في باب الشهادة عن أنواع العدالة وشروطها ومحدداتها لقبول شهادة في متاع دنيوي، فهذا الله العلي، الذي استوى على عرشه، يذكر شهادة العالم الرباني، ويجعلها مع شهادته وشهادة ملائكته في أخطر قضية وجودية وأعلى مقصود لخلق الكون، وهو عبادة الله وتوحيده، وإن دينه الإسلام، فما أرفع الشاهد والمشهود عليه وموضوع الشهادة! لا منزلة ولا مكانة بعد هذه المنزلة، وإذا كانت هذه مكانة العلماء الربانيين، فكيف بالرسل والأنبياء؟

4. على العالم الرباني أن يعلق قلبه بالله ورفعته، التي ليس لها حد محدود، لا ببشر محدود ضعيف، مهما حاول إعلاء شأنه، فهو محدود مؤقت زائل لا قيمة له، بل إن كان بسخط الله، فهو الذي تركك لانحرافك وشهواتك، وجعلك لعبة محدودة بيد محدودين سفهاء ضعفاء من أهل المال والجاه والسلطان الزائل.

5. منصب العالم العامل ومكانته الرفيعة وما وضع له من قبول في الأرض، لا يمكن لبشر مهما كانت سلطاته وسطواته أن يجرده منها ويحط من مكانته؛ لأن الذي رفعه هو الله، فمن الذي يقدر على حط من رفعه الله؟

6. العالم الورع مرتبط بالله، فليطمئن، فهو من يتولاه ويرفعه، فلا يلتفت لغيره.

7. إزالة المخاوف التي قد تعترض العالم في حياته حين يعلن للناس الحق الذي يريده الله ويبلغه، فتدهمه مخاوف وقلق من رد فعل الناس والجمهور أو السلطات أو الحزب أو المذهب، فيبين الله له أن كل هذا لا شيء، كله هباء، كل هذه المخاوف صناعة خناسية، أزلها من رأسك، فأنا من أرفعك، فكن معي ولا تلتفت لمن هم بيدي.

8. الذي يرفع ويضع هو الله لا البشر، فما هم سوى أدوات في قدر الله ينفذون ما قدر.

9. إن تولاك سبحانه ورفعك، فهو أمر قهري يجري حتى على من يكن لك العداء وينابذك، فلا يقدر على صرف ما أنعم الله عليك من القبول والمكانة والرفعة، ولو كاد ما كاد، وكم من علماء مصلحين في التاريخ قالوا الحق وتعبدوا الله ببيان شرعه في نوازل الحياة، فذكرهم باقٍ إلى قيام الساعة، وقد انطمر من كادهم وبغى عليهم في دركات الهوان، ولعنه التاريخ إلى يوم الدين.

10. العالم الفاسق محطوط وضيع ملعون، ولهذا يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

11. هذا العالم المجرم، اللاهث وراء المطامع والزخارف، وصل لحالة كلبيّة مزرية، ولازمته مشكلة معضلة حقيقية لا علاج لها، فلا يشبعه شيء، ولا يقنعه عطاء، ولا يتوقف عن ذلك مدى الحياة، كالكلب اللاهث في كل حالاته.

12. أن فعله هذا من الكبائر الموبقة؛ لأن دلالة التشبيه والتشنيع تفيد التحريم، ودلالة اللعن وتفخيم الجريمة ومآلاتها وتنويع أساليب ذمه وتجريمه دليل على أنها من الكبائر الجسيمة.

وفيه مسائل وفوائد أخرى، ليس هذا محلها، ولهذا لعن الله الأحبار والرهبان لما حرفوا وبدلوا. والنصوص في هذا كثيرة صريحة.

فالحذر الحذر من زيغ القلب وانحراف النية! الخيار بين يديك، وأنت على مفترق طرق خطير: فإما أن تكون مع الله وملائكته، أو بين الكلاب ولهاثها.

كتبه:

أ.د. فضل عبد الله مراد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.